لو أنّنا خربّنا جزءاً من المخيخِ لاضطربتِ الرؤيةُ، ولَمَا استطاعَ الإنسانُ أنْ يركِّزَ بُؤْبُؤَ عينِه على سطرٍ ليقرأَه، هذا مرضٌ سمّاه العلماءُ الرأرأةَ، ولو أننا خرّبنا جزءاً من المخيخِ لا يزيدُ على حبّةِ عدسٍ لاضطربَ مشيُ الإنسانِ، ولأصيبَ بحالةٍ اسمُها الترنُّحُ، يمشي كمِشيةِ السكرانِ، لو خرّبنا جزءاً يسيراً من المخيخِ لاضطربَ جهازُ النطقِ، ولأصيبَ المتكلمُ بالفأفأةِ، والتأتأةِ، والحبسةِ، وما إلى ذلك، من منا يقدِّرُ هذا الجهازَ الخطيرَ، الذي يقبعُ في الجمجمةِ؟ سمّاه العلماءُ المخيخَ، لا يزيدُ وزنُه على مئةٍ خمسين غراماً، كخيوطٍ مشتبكةٍ، هو الذي ينسِّقُ، ويحسبُ المقدارَ الدقيقَ المطلوبَ من الجهدِ، حينما تقلِبُ صفحةً في كتابٍ، وحينما تقلبُ كيساً مملوءاً، وزنُه خمسون كيلو غراماً، فهل هذا الجهدُ كهذا الجهدِ؟ لقد أعطى الدماغُ أمراً بقلبِ هذا الكيسِ، أو قلبِ هذه الصفحةِ، مَن الذي يحدِّدُ بالضبطِ أنّ قلبَ الصفحةِ يحتاجُ إلى جهدٍ لا يزيدُ على غراماتٍ، في حين أن قلب كيسِ السُّكرِ يحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ؟ كأنَّ الدماغَ مهندسٌ معماريٌّ، وكأن المخيخَ مهندسٌ مدنيٌّ، يحسبُ الأمتارَ، وحاجاتِ البناءِ، مِنَ الإسمنتِ، والحديدِ، ومساحاتِ الدعائمِ، وما إلى ذلك.
آياتٌ كبيرةٌ في داخلِ الإنسانِ، تُعْجِزُ ذوي الألبابِ، قال تعالى: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون﴾ [الذاريات: ٢١].
أنْ تمشيَ في الطريقِ، هل تعرفُ أنّ هذه نعمةٌ، لو فَقَدْتَها لعرفتَ قيمتَها؟ أنْ تمشيَ على قَدَمَيْكَ، أنْ تقفَ، أنْ تجلسَ، أنْ تنحنيَ، أنْ تصلِّيَ، أنْ تركعَ، أنْ تسجدَ، أنْ تقعدَ القعودَ الأخيرَ، إنّ هذه الحركاتِ حركاتٌ بالغةُ التعقيدِ، ولولا المخيخُ لَمَا أمكنَكَ أنْ تقفَ، ولا أنْ تجلسَ، ولا أنْ تميلَ، ولا أنْ تقعدَ، ولا أنْ تضطجعَ، ولا أنْ تتكلمَ، ولا أنْ تنظرَ، كلُّ هذه النشاطاتِ الحركيَّةِ تقوم بِها لأنَّ المخيخَ مركزُ تنسيقِ وانسجامِ حركاتِ البدنِ بشتَّى أنواعِها، قال تعالى: ﴿وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون﴾ [الذاريات: ٢١].