والقلبُ هو العالِمُ باللهِ، والمتقرِّبُ إلى اللهِ، وهو المقبولُ عندَ اللهِ، إذا سَلِمَ مِن غيرِ اللهِ، وهو المحجوبُ عن اللهِ، إذا انشغل بما سوى اللهِ، وهو الذي يسعدُ بالقربِ مِنَ اللهِ، ويشقى بالبُعدِ عنه، وقد رُوِي: "عبدي طهَّرتَ منظرَ الخَلْقِ سنينَ، أفلا طهّرتَ منظرِي ساعةً"، والقلبُ هو منظرُ الربِّ، ولا يفلحُ الإنسانُ، ولا يطيبُ إلا إذا زكّاه، ويخيبُ، ويشقَى إذا دنَّسه، ودسَّاهُ.
إنْ فتَّشتَ عن أعجبِ ما خَلَقَ اللهُ في السماءِ والأرضِ لم تجدْ أعْجَبَ، ولا أروعَ، ولا أدقَّ، ولا أجملَ مِن قلبِ الإنسانِ.
تصلح أوتارُه فيفيضُ رحمةً، وشفقةً، وحباً، وحناناً، ومعانيَ لطافاً، وشعوراً رقيقاً، حتى يتجاوزَ في سموِّه الملائكةَ المقرَّبين.
وتفسدُ أوتارُه، فينضحُ قسوةً ولؤماً، وسوءاً حتى يهوى إلى أسفل سافلين، حوَى على دقتّه كرةَ العالَم، فما أدقَّه، وأجلَّه، وما أصغرَه، وأعظمَه، يكبُرُ ولا نرى كِبَرَه، فيتضاءلُ أمامه كلُّ كبيرٍ، ويصغرُ ولا نرى صِغَرَه، فيتعاظمُ عليه كلُّ صغيرٍ.
اتّحدَ شكلُ القلبِ، واختلفت معانِيه، فقلبٌ كالجوهرةِ، صفَا لونُه، وراق ماؤُه، وقلبٌ كالصخرِ قويٌّ متينٌ، ينفعُ، ولا يلمعُ، وقلبٌ هواءٌ، خفَّ وزنُه، وحال لونُه، يموتُ القلبُ، ثم يحيى، ويحيى، ثم يموتُ، ويرتفعُ إلى الأوجِ، ويهبطُ إلى الحضيضِ، وبينما هو يسامِي النجومَ رفعةً إذا هو يلامسُ الطاعةَ طاعةً، أليس أعظمُ بناةِ العالَم قد امتازوا بكبرِ القلبِ، وصدقِ الشعورِ، وقوةِ الإرادةِ، فإنْ وَجَدَ الإنسانُ كلَّ شيءٍ، وفَقَدَ قلبَه فإنه لم يجد شيئاً.
إنّ قلبَ الجسدِ من أعجبِ ما خَلَقَ اللهُ، إنه مِضَخَّةٌ مزدوجةٌ تضخُّ الدمَ الذي يحملُ الغذاءَ والوقودَ إلى كلِّ خليةٍ، ونسيجٍ، وعضوٍ، وجهازٍ عن طريقِ شبكةٍ من الأوعيةِ يزيدُ طولُها على مئةٍ وخمسينَ كيلومتراً.
إنه يعملُ منذ الشهرِ الثاني من حياةِ الجنينِ، وحتى يأتيَ الوقتُ فإنه لا يغفلُ، ولا ينسى، ولا يسهو، ولا يقعدُ، ولا يكبُو، ولا يملُّ، ولا يشكُو، بل يعملُ دونَ راحةٍ، ولا مراجعةٍ، ولا صيانةٍ، ولا توجيهٍ...