تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)
قال تبارك وتعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٦] يعني: الأمم السابقة لما جاءتهم الآيات لم يؤمنوا فأهلكهم الله عز وجل بتكذيبهم، فهل هؤلاء سيؤمنون؟ وقد ذهب إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه مجموعة من الكفار منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وأبو البختري والوليد بن المغيرة، فطلبوا منه آيات ذكرها الله في قوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣] يعني: لو ارتقيت فلن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب مختوم من عند ربنا أنك نبي من عند رب العالمين.
فلم يجبهم النبي ﷺ وأخبرهم أنه إنما بعث من عند الله بهذه الرسالة، وأنه قد أبلغهم ما أرسل به إليهم؛ فإن قبلوه فهو حظهم في الدنيا والآخرة، وإن ردوه عليه صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم.
وقد روي أن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمة النبي ﷺ عاتكة بنت عبد المطلب، كان من أشد الناس عليه مع عمه أبي لهب، وكان معهم فلما قام النبي ﷺ عنهم قال له: (يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم)، يعني: طلبوا منك أن تأتيهم بآية من الآيات التي ذكروها فلم تجبهم، وكانوا قد طلبوا منه أن يدعو الله أن يوسع لهم الأرض بأن يزيل ما حول مكة من الجبال، وهذه كلها مطالب حقيرة تدل على قلة عقولهم، رغم أنهم يعرفون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بشهادة ربهم عليهم: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣].
فهذا الرجل مثلهم في جهلهم فيقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: (سألوك لأنفسهم أموراً فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك، فلم تفعل)، يعني: ألم يطلبوا منك أن تسأل ربك أن يجعل لك بيتاً من زخرف، فأبيت، ثم سألوك أن تعجل لهم العذاب -وهذا من جهلهم وحماقتهم- فلم تفعل ذلك.
ثم قال له: (أما أنا فلن أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك رسول من عند رب العالمين).
ثم قال بعد ذلك: وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! لذلك قال الله عن هؤلاء: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٦].
فلو أتاهم بهذه الآيات فوسع لهم الأرض -مثلاً- لقالوا: إنما هذا من سحره، وقد طلبوا منه في ليلة من الليالي أن يشق لهم القمر، فدعا ربه صلوات الله وسلامه عليه ذلك، ثم أشار بيده إلى القمر فانشق القمر نصفين، فكان نصفه قدام الجبل ونصفه الآخر وراء الجبل.
فلما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا من السحر، ثم قاموا يترقبون الواصلين إلى مكة من البوادي ليسألوهم عن رؤيتهم لانشقاق القمر، فكلما سألوا أحداً أكد لهم رؤية انشقاق القمر، ومع ذلك لم يؤمنوا.
ولو كانت هذه الآية لجميع الناس لأهلكم الله سبحانه، لقوله تعالى لنبي إسرائيل لما أنزل عليهم مائدة من السماء: ﴿قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥]، وكما أهلك الله ثمود لما جاءتهم الناقة فقتلوها.
فكان من رحمة ربنا سبحانه أن هذه الآية كانت للبعض من الناس وليست آية عامة وإلا لأهلك الجميع.
وأثبت ربنا سبحانه وتعالى هذه الآية في كتابه فقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: ١]، ولعلكم سمعتم حديث الدكتور زغلول النجار في هذه المسألة، حيث قال: إنه كان يلقي محاضرة في أمريكا وأثناء ذلك قام رجل أمريكي مسلم وقال: إن قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: ١] هي سبب إسلامي، فقد تعرفت قبل فترة على مجموعة من المسلمين فأحببت أن أتعرف على الإسلام، فأهدى إلي أحد ترجمة للمصحف، فأخذت الترجمة وأول ما فتحتها ظهرت أمامي هذه السورة: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: ١]، فتوقفت عن القراءة ولم أتقبل هذا الكلام، وبعد زمن كنت أشاهد برنامجاً تلفزيونياً فيه مقابلة مع أحد رواد الفضاء وإذا بالمذيع ينكر عليه صرف ألف مليون دولار من قبل الحكومة على مشروع من أجل وضع العلم الأمريكي فوق القمر.
فقال رائد الفضاء: إننا صعدنا إلى القمر لأهداف علمية، ويكفينا أننا أتينا للناس بمعلومة لم يكونوا ليعرفوها ولو صرفوا أكثر من هذا المبلغ لولا الصعود إلى سطح القمر، وهذه المعلومة هي أننا وجدنا شقاً طولياً يطوق القمر كالسوار فأخذنا عينات من الشق والتقطنا الصور ثم بعثنا بها إلى علماء الجيولوجيا في الأرض، فقالوا: هذا دليل على حصول انفلاق للقمر في يوم من الأيام، ثم عاد والتحم ثانية.
قال الرجل: فلما سمعت هذا الكلام عرفت أن هذا هو الحق ورجعت للقرآن مرة ثانية فأسلمت.
وهذه القصة حكاها الدكتور زغلول النجار أكرمه الله في معرض كلامه عن هذه الآية.
فالأمريكيون صرفوا ألف مليون دولار من أجل أن يثبتوا آية أثبتها الله في كتابه وجعلها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.