معنى قوله تعالى: (ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً)
قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢]، فالله الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى، خلق كل شيء فأحسن خلقه، وقدره ودبر أمره تدبيراً محكماً سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: ٢ - ٣] سبحانه وتعالى.
يقدر الشيء فيعطيه قدره، فلا يكون أكثر من هذا القدر، ولا أقل من هذا القدر، ومنها ما هو عند البشر، نقول: هذا يقدر كذا، يخرص ويظن ويدبر في نفسه الشيء كيف يكون.
فالخلق والتقدير بمعنى: أنه ظن أن هذا البساط يكون طوله كذا، وعرضه كذا، فبدأ يعطيه المقاسات، ثم قصه على هذا الشيء، فالله سبحانه وتعالى المقدر الذي دبر الأمر فأعطى، لهذا يكون كذا، ويكون كذا، ويكون كذا، فلما أوجده كان على هذا الذي دبره الله عز وجل لا زاد فيه شيء ولا نقص منه شيء.
فانظر إلى قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر: ٢٤]، الخالق معناه: خالق كل شيء، وموجد كل شيء سبحانه وتعالى، البارئ: الموجد أيضاً للأشياء، والمصور أي: للأشياء التي يوجد فيها أشياء معينة، كالعينين، والأذنين، والأنف، والشعر ونحوه.
ولو أتى كل اسم لوحده من هذين الاسمين فإنه يشمل معنى الخلق والتصوير، لكن لما اجتمعا مع بعض صار هناك فرق دقيق بين معاني هذه الأسماء الحسنى العظيمة لرب العالمين، فهو الخالق يعني: الذي يقدر الشيء قبل أن يوجده، هذا سيكون إنساناً، فإذا أوجده لابد وأن يكون إنساناً، وهذا سيكون حيواناً فكذلك، وهذا سيكون جماداً، وهذا سيعيش كذا ويموت في كذا وهذا في صفته كذا وكذا وكذا، فقبل أن يوجده قدره سبحانه وتعالى، فالخالق قدر الشيء، فيكون المعنى: الله عز وجل خلق الأشياء وأوجدها.
فلما قال: ﴿الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر: ٢٤]، أعطى معنى التقدير في الخلق الذي قدر سبحانه وتعالى، والبارئ: براه وأوجده بعد أن كان عدماً، والمصور: سماه سبحانه بالتصوير، فجعل له العينين والرأس والشعر، وأعطاه الصورة التي تميزه عن غيره.
فـ ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر: ٢٤]، سبحانه وتعالى، فهنا أخبر أنه خلق كل شيء يعني: دبره وأوجده على حكمة منه سبحانه، فكان على التقدير الذي جعله سبحانه وتعالى عليه، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، فهو تقدير عظيم محيط بكل شيء إلى يوم يبعثون إليه سبحانه وتعالى.
فالله يقدر كل شيء حتى دخول كل إنسان الجنة أو النار إلى ما شاء رب العالمين، فهذا الإنسان يخلق في الوقت الفلاني في العصر الفلاني، وينزل في الوقت الفلاني، ويمكث في الحياة كذا وكذا، ويكون من صفاته كذا وكذا، ويكون عمله كذا وكذا، ويكون في الناس كذا وكذا، وهذه صورة نذكرها في الإنسان، وقس على ذلك ما يكون من حيوان وجان وجماد ونبات، وكل شيء يدخل في هذا التقدير بحكمة رب العالمين سبحانه.
قال: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢]، لا تحيط بهذا الشيء علماً، ما هي الأشياء يا ترى؟ كل شيء أوجده الله في الأرض حتى الحشرة الصغيرة التي في باطن الأرض، يا ترى! كم حشرة موجودة على الأرض؟! لا تعد هذه الأشياء، وكم قد مات منها وكم سيوجد بعد ذلك؟ كل شيء من هذا تقديره عند الله سبحانه، النبات وأوراق الأشجار والثمار والأشجار نفسها، وكل ما يكون على ساق، وكل ما يكون على نجم، هذا كله خلقه الله وقدره تقديراً، وقس على ذلك في كل مخلوقات الله سبحانه، فكل شيء مقدر عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فقد بدأ في بداية السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الاعتقاد في كتاب رب العالمين، وأنه الفرقان، وأنه شرع رب العالمين، وأنه جاء من السماء لإثبات صفة العلو لله سبحانه، فقد نزل القرآن فجاء من عند رب العالمين، فالله فوق سماواته سبحانه، ونزل الكتاب على عبده محمد صلوات الله وسلامه عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر وصفه الذي نعتقد به أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، وأنه نذير من عند الله مبين، وأنه عبد من عباد الله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر نفسه سبحانه أنه الملك، وأنه الذي لا شريك له في خلقه ولا في تقديره، ولا في ملكه، ولا في عبادته سبحانه وتعالى، لا شريك له فهو المالك الملك، وهو الذي خلق كل شيء، وهو الذي أحكم وقدر تقديراً.


الصفحة التالية
Icon