ذكر حال أهل النار
ثم أمر نبيه أن اصرف تفكيرك عن ذلك، فهم قد كذبوا بالساعة فلا تهتم لكلامهم، وقد وقعوا في أعظم الكفر بالله سبحانه، ثم يجادلون في ذلك، قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾ [الفرقان: ١١]، ولم يقل: وأعتدنا لهم سعيراً، بل لهم ولغيرهم وكل من كذب بيوم القيامة أعتدنا له السعير، والسعير: النار المستعرة، يعني: شديدة التلهب والاضطرام والإيقاد والاشتعال، فهي سعير، ومنها الكلب المسعور؛ لأنه يجري في كل مكان، ويعلق في أي شيء، فهو مضطرب ويجري نفوراً، فكذلك نار جهنم ترد على أي شيء والعياذ بالله، تقدم عليه وتحرقه وتلهبه فهي مستعرة، والسعر أيضاً: الجنون، فكأنها نار ملتهبة، حتى أنها لا تقدر أن تميز هذا الذي أمامها، أهو عظيم أم حقير؟ فكل من دخل فيها استعرت عليه، والتهبت عليه وأخذته، نسأل الله العفو والعافية.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ [الفرقان: ١١]، أي: حضرنا وجهزنا، ﴿لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا﴾ [الفرقان: ١١]، وكلمة (لمن) من صيغ العموم، أي: كل من كذب بالساعة أعتدنا له عذاب السعير.
ويقول سبحانه في هذه النار: ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢]، أي: إذا رأتهم النار من مكان على بعد خمسمائة سنة، أي: من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، وهنا كأنه من باب الاكتفاء في قوله تعالى: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢]، والأصل: سماع الزفير، والزفير: صوت النفس الخارج فيسمع، والتغيظ يرى، فتقول: رأيت فلاناً متغيظاً، وسمعت له صوتاً، فالأصل في ذلك: أنهم سمعوا زفيرها، ورأوا تغيظها عليهم، فالتغيظ لا يسمع، وهذا يسمونه: الاكتفاء بالواحد عن المجموع، فالله سبحانه اكتفى بذكر ذلك، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١]، فالأصل أنه لا يقال: أجمعت الشركاء، وإنما أجمعت عزيمتي، أجمعت رأيي، بمعنى: عزمت على الشيء، ويقول: جمعت الشركاء، فكأن المقصد منها هنا أن يكتفي بواحد من الفعلين، أجمعوا أمركم وجمعوا شركاءكم، فاكتفى بواحد للتعبير عن الاثنين.
وكحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رغبة ورهبة إليك)، فهذا فيه الاكتفاء أيضاً، وحمل اللفظ على المجاورة، أي: رغبة إليك ورهبة منك، فاكتفى بواحد من الاثنين عن ذلك.
ومنه قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججن الحواجب والعيونا فقوله: تزجد الحاجب أي: تطوله، لكن العيون لا تطول، فكأنه يقصد: زججن الحواجب وكحلن العيون، فاكتفى بفعل على الاثنين، فهذا من باب الاكتفاء الذي يقولونه، أو المجاورة.
من أجل ذلك قال تعالى: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا﴾ [الفرقان: ١٢]، أي: كأنهم رأوا لها هذا التغيظ، وسمعوا صوت زفير جهنم، قال تعالى: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢].
فقوله سبحانه: ﴿سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان: ١٢]، وقوله سبحانه: ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [الفرقان: ١٢]، فيهما دلالة على أنها رؤية حقيقية، تراهم النار حقيقة، وقد جاء في حديث عند الترمذي وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق).
والله عز وجل يخلق ما يشاء، فإن نار جهنم يؤتى بها، ويخرج منها هذا العنق، والعنق له أذنان تسمعان، وله عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول هذا العنق: (إني وكلت بثلاثة، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين)، وكل هذا يوم القيامة يخطف هؤلاء إلى نار جهنم والعياذ بالله.
فيخرج من النار هذا العنق، وهو ذراع يخرج من النار، يبصر ويسمع ويتكلم ويخطف هؤلاء من الموقف، ويجعلهم في نار جهنم والعياذ بالله، وهذا حديث صحيح، وفيه أنه وكل بثلاثة: بكل جبار عنيد، أي: بكل إنسان فيه جبروت، وفيه معاندة لدين رب العالمين سبحانه، وبالمشركين ممن دعوا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين، الذين يصورون الصور، وينحتون التماثيل، ويصنعون الأصنام، والذين يرسمون فيضاهون خلق الله سبحانه، فقد وكل الله بهم هذا العنق يوم القيامة.
يقول سبحانه: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ﴾ [الفرقان: ١٣]، و ((ضَيِّقًا)) [الفرقان: ١٣]، قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وإذا ألقوا منها مكاناً ضَيْقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً)، فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا﴾ [الفرقان: ١٣]، أي: أن هذا الكافر وهذا المشرك الذي يدخل النار يلقى منها في مكان ضيق.
والنار واسعة جداً والعياذ بالله، وقعرها بعيد جداً، ومع ذلك يضيق الله سبحانه وتعالى على أهل النار الأماكن التي هم فيها، فيلقى كل هؤلاء الكفار في مكان ضيق فيها، والنار لا تكتفي بذلك، بل كلما ألقي فيها فوج وسألهم خزنتها، قالت: هل من مزيد؟ فالخزنة يسألونهم ألم يأتكم نذير؟ يقولون: بلى، والنار تقول: هل من مزيد؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط اكتفيت اكتفيت)، أي: لن أقول ذلك مرة أخرى.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ﴾ [الفرقان: ١٣]، أي: أن كل إنسان مع قرينه، ومع مشاكله، ومع صاحبه، فرفيق السوء يكون مع رفيقه، والإنسان يكون مع شيطانه، ومع من كان يستهويه من الجان في نار جهنم، مقترناً معه، موثقاً مكتفاً معه، فالإنسان والقرين الاثنان في النار، ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ﴾ [الفرقان: ١٣]، أي: مربوطين بعضهم ببعض، قال تعالى: ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: ١٣]، أي: استيقنوا من العذاب، فدعوا بالثبور، والثبور: الهلاك، أي: يدعون على أنفسهم بالموت، من أجل أن يستريحوا مما هم فيه، ﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: ١٣]، أي: هلاكاً، فيقال لهم: ﴿لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ [الفرقان: ١٤]، أي: لا تدعو اليوم موتاً واحداً، بل ادعوا موتاً كثيراً، وادعوا ما شئتم، فليس هناك موت.


الصفحة التالية
Icon