تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)
يقول سبحانه مخاطباً رسوله صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠]، هنا يطمئن الله عز وجل نبيه ﷺ بأنك لست بدعاً من الرسل، وليس أمرك غريباً عنهم، بل كل الرسل قبلك كانوا يذهبون إلى الأسواق، ويحضرون متاعهم، ويبيعون ويشترون، وهذا ليس عيباً فيهم، ولا عيباً فيك.
قال: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الفرقان: ٢٠]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لما عير المشركون رسول الله ﷺ بالفاقة، يعني: بالفقر، فقالوا له: أنت تذهب تعمل وتبيع، فأنت محتاج للمال مثلما نحتاج نحن إليه فبماذا فضلت علينا؟ ولماذا أنت الذي جعلت رسولاً إلينا؟ قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧]، وكأن المعنى: أنت تأكل وتشرب، وتتبول وتتغوط مثلنا، وقد ذكر الله ذلك عن المسيح عليه الصلاة والسلام، فقال: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: ٧٥]، أي: أنه بشر من البشر، فهو يأكل مثل البشر، وأمه كذلك، والذي يأكل يحتاج إلى أن يخرج هذا الذي أكله.
وكذلك النبي ﷺ بشر من البشر يأكل ويشرب ويحتاج أن يخرج ذلك وليس هو من الملائكة، وليس عيباً أن يكون من البشر صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ﴾ [الفرقان: ٢٠]، وأتى بلام التوكيد ليؤكد أنه لم يخرج عن ذلك أحد فكلهم بشر، قال تعالى: ﴿وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٢٠]، أي: في حاجتهم، فيذهبون ويشترون ويبيعون ويتاجرون، أي: أنهم محتاجون إلى ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠]، يقول: الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة.
والإنسان المؤمن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن الرزق من عند الله سبحانه، وليس معنى ذلك: أن الإنسان يجلس في بيته، وينتظر أن ينزل له الرزق من السماء على أطباق يأكل منها، وإنما يخرج إلى السوق كما خرج الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والأولياء، فكانوا يذهبون يشترون ويبيعون، ويحضرون متاعهم، فهي أصل في أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى.
وعندما خرج أهل اليمن للحج من غير زاد وقالوا: نحن المتوكلون، فلما وصلوا إلى مكة سألوا الناس، أنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ [البقرة: ١٩٧]، أي: لا تقولوا: نحن متوكلون، ثم تسألون الناس.
فهنا يذكر الله تعالى صفة في الأنبياء وهي أنهم يكتسبون، فكان أشرف الرزق لنبينا محمد ﷺ ما كان من الغنائم في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.