تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان: ٤١ - ٤٣].
في هذه الآيات من سورة الفرقان يذكر الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كيف أنه اتخذه المشركون هزواً يستهزئون به صلوات الله وسلامه عليه، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه وهم يدعونه إلى الضلال، فإذا مر بهم النبي ﷺ استهانوا به واستهزءوا به صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون مستهينين به: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١]، وكأنهم يستكثرون عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يكون رسولاً لرب العالمين.
ولذلك قالوها في موضع آخر: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]، فكيف ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟! لماذا لا ينزل على عروة بن مسعود بالطائف، أو ينزل على أحد من الكبار الموجودين في مكة؟! كيف نزل عليه؟! وبدءوا هم يتخيرون من عند أنفسهم لماذا لم ينزل على فلان أو فلان؟ ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]، والجواب ليس من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما من الله سبحانه، قال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: ٣٢]، هؤلاء الجهلة الحمقى والمغفلون أهم يقسمون رحمة الله؟! ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، ﴿اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ١٧٩]، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨].
فالله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، يجتبي ويصطفي ويختار من هو أهل لذلك، والله أعلم بذلك، وقبل النبي ﷺ كان أهل الكتاب يعلمون أنه سيبعث في هذا الزمان رسول، فبعض العرب بدأ يستعد لذلك، فكان أحدهم يلقب نفسه (الراهب) ويتعبد حتى يكون هو رسول هذا القرن أو هذا الزمان، ولكن الله عز وجل يختار من يريده، فهو أعلم بقلوب عباده، فاصطفى نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
أما ذاك الراهب الذي كان في الجاهلية راهباً فكان بعد الإسلام أفسق خلق الله سبحانه وتعالى وأقذرهم، وأكثرهم معصية للنبي ﷺ وكيداً له، وابنه كان من أعبد خلق الله سبحانه وتعالى، وقتل شهيداً في يوم أحد، وهو حنظلة بن عامر الراهب غسلته الملائكة بعد موته، فقد سمع الصيحة للقتال فخرج وكان معرساً بامرأته فتركها وانصرف إلى القتال في سبيل الله، فقتل شهيداً رضي الله عنه، فغسلته الملائكة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه كان يستعد لأن يكون رسولاً، وفي ظنه أنه رسول هذا الزمان، وبدأ يتعبد ويتعبد، ولكن الله لم يختره، وإنما اختار نبيه صلوات الله وسلامه عليه بذلك.
وكان الكفار إذا رأوا النبي ﷺ يستهينون به ويستهزئون، فيظهرون ذلك أو يضمرونه، فأحياناً كانوا يظهرون ذلك وكان يصبر ﷺ على أذاهم كثيراً، وأحياناً كان يجاريهم ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح)، فإذا بهم يخافون ويقولون: انصرف يا أبا القاسم! فما كنت جهولاً، يخافون منه صلوات الله وسلامه عليه، وأحياناً يجتمعون بشرهم فإذا بهم عندما يرونه ساجداً يسلطون أحدهم فيذهب ويأتي بسلى بعير فيجعله فوق ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء أحدهم إلى النبي ﷺ وهو ساجد على الأرض فوضع قدمه على رقبته، وكاد أن يقتله ويخنقه صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا عقبة بن أبي معيط لما جاء إلى المدينة أسيراً في حربهم مع النبي ﷺ في بدر استحق أن يقتله النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يؤذي النبي ﷺ في مكة.
يقول الله سبحانه: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾ [الفرقان: ٤١]، سواء أظهروا الاستهزاء أو أضمروه، قائلين: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١]، أي: هذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق يبيع ويشتري مثلنا هو هذا الذي بعثه الله عز وجل رسولاً؟! قال: ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا﴾ [الفرقان: ٤١]، وأصلها (هزؤ) بالهمز، فقراءة النقل لـ حفص فقط، وبقية القراء يقرءونها بالهمز فيقرؤها الجميع ما عدا حمزة: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزؤاً))، وحمزة يقرؤها: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزءاً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا))، فإذا وقف عليها قال: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزا)) وهناك قراءة أخرى في الوقف عليها لـ حمزة يقول: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزْوا)) والمعنى: يسخرون منك، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا استهزاءً فيستهزئون بك ويسخرون منك، قائلين: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ [الفرقان: ٤١].