الكلام على الحروف المقطعة
بدأت هذه السورة بالحروف المقطعة، وهي: حرف الطاء والسين والميم، ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١]، فهذه السورة والتي تليها والتي تليها: الشعراء والنمل والقصص تسمى بسور الطواسم، يعني: التي فيها طسم، أو التي فيها: طس، وتسمى بالطواسين.
فقوله تعالى: ﴿طسم﴾ [الشعراء: ١] هي مثل غيرها من السور التي بدأها الله عز وجل بحروف مقطعة في أوائل السور، وما قيل في هذه السور فإنه يقال أيضاً في هذه السورة، وهو أن الله عز وجل بدأها بهذه الحروف بياناً للناس أن القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون وتنطقون بها، فأتوا بسورة من مثله، فهو تعجيز منه سبحانه لخلقه، فكأنه يقول: إن هذا القرآن ليس كلاماً أعجميعاً، ولا هو بلغة لا تعرفونها، بل هو بغلتكم أنتم، وأنتم الفحول والكبار في النطق باللغة العربية خطابة ونثراً وشعراً، فأتوا بكلام مثله، أو فأتوا بسورة من مثله، أو فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات، فلم يقدروا على شيء.
وقيل: إن هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور هي مسميات للسور، فتسمى السورة بها، فيقال: سورة طسم الشعراء، والتي تليها سورة طس النمل، والتي تليها سورة طس القصص، وقيل: بل إنها أقسام يقسم الله عز وجل بها.
وقيل: بل إنها افتتاح للسور لشد انتباه الكفار؛ لأنهم لم يتعودوا على هذا الشيء، فعندما يقول: الم، فإنهم يسمعون للذي يقول، ويسمعون لهذا الكلام الغريب، فيتلوا عليهم بعد ذلك هذا القرآن العظيم، ولذلك لا يذكر في هذا القرآن العظيم فواتح للسور مثل: ألم، الر، طسم، طس، حم، وغيرها من الفواتح إلا ويذكر بعدها إشارة لهذا القرآن العظيم، كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، وكما قال في سورة آل عمران: ﴿الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران: ١ - ٣]، وقال هنا: ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: ١ - ٢]، فكأنه يشد انتباه هؤلاء بحروف لا يفهمون معناها؛ من أجل أن يتعرفوا ما هو المقصود، فإذا سمعوا ذكر لهم ما يريده منهم هذا القرآن العظيم.
وعلماء العد يقولون: إن كل سورة يبدأها الله عز وجل بفواتح من أحرف معينة فإن هذه الحروف تكون فيها أكثر عدداً من غيرها من الحروف، فلو عددت حروف هذه السورة فستجد أن الطاء والسين والميم أكثر حروف السورة تكراراً فيها.
قال تعالى: ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: ١ - ٢]، وفي هذه السورة كرر الله عز وجل بعض الآيات فيها مرات، فكرر قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٨ - ٩]، فقد كررها ثمان مرات في هذه السورة، فلا يذكر نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا ويذكر هاتين الآيتين، فقد ذكر قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر بعده ذلك فقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٨ - ٩].
ثم ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم نوحاً، ثم هوداً، ثم صالحاً، ثم لوطاً، ثم شعيباً، وبعد أن يذكر كل قصة يقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٨ - ٩]، فيكرر ذلك لتقرير هذا الأمر والتأكيد عليه، فإن في هذه آية لمن يعتبر، ففي كل قصة من قصص الأنبياء وما فعل الله عز وجل بأقوامهم آية من الآيات، ومع ذلك لم يكونوا مؤمنين، وكذلك من جاء من بعدهم لم يؤمنوا بما جاء قبل ذلك.
وكذلك كرر الله سبحانه قوله: ﴿أَلا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: ١٠٦] على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد ذكر ذلك في خمسة مواضع من هذه السورة: في قصة نوح، وفي قصة هود وفي قصة صالح، ولوط، وشعيب.
وكذلك كرر قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: ١٠٨] في قصة نوح وهود وصالح.
والمقصد من ذلك التأكيد والتقرير لماذا أرسل الله الرسل، وأنه أرسلهم لبيان شرع رب العالمين، ولهداية الناس للإيمان بربهم، وأن يطاعوا ولا يعصوا.