تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٧]، فقد كانوا يستدلون على النبي ﷺ بأنهم سيصيرون جيفة وسيموتون ولا يبعثون، فقد جاء في الحديث: (أن أحد المشركين ذهب إلى النبي ﷺ ومعه عظم من رأس إنسان ميت ففركه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: تزعم أن ربك يبعث هذا؟ قال: نعم يبعثه ويدخلك النار).
فربنا يقول لهؤلاء الحمقى والمغفلين: انظروا إلى النبات الذي نخلقه، فهو يخرج نضراً وفيه الثمار من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يصير يابساً جافاً، ثم يموت بعد ذلك، ويخلق الله عز وجل غيره، فهل رأيتم إلى الأرض وهي ميتة حين ينزل عليها الماء من السماء كيف تنبت من كل الثمرات؟ أليس الذي أنبتت ذلك قادراً على أن يعيدكم مرة أخرى؟! لم لا تنظرون! قال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ [الشعراء: ٧]، فكل نبتة تخرج من الأرض وكل حبة يجعلها الله عز وجل آية لكم، وفي كل ثمرة توجد آية للعباد.
قوله: ((كم أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)) أي: من كل صنف من الأصناف.
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فالله عز وجل هو الذي خلق ورزق، وهو الذي قدر كل شيء، وهو الذي أخرج لكم كل شيء، فهو بهذا ينبهكم على عظمته وقدرته، وأنكم لو نظرتم بعيونكم وتفكرتم بقلوبكم لعلمتم أن الذي يخلق هذا النبات: فتخرج النبتة، ثم تكون الحبة، ثم تأخذ أنت هذه الحبة وتضعها في الأرض فإذا بالله ينبتها مرة ثانية، ويخرج منها ما يشاء من فضله سبحانه قادر على إعادتكم، فهذه آيات ليل نهار يراها الإنسان أمامه، ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: ٤٠] فقد أخرج لكم ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾ [الشعراء: ٧]، أي: من كل صنف ونوع من الأنواع متشابه وغير متشابهة، ﴿كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: ٧] أي: حسن شريف.
وأصل الكرم في اللغة: الشرف، وبمعنى الفضل، فيقال: هذه نخلة كريمة، يعني: تؤتي ثمرها اللذيذة الطعم، فهي نخلة كريمة فاضلة كثيرة الثمار، ورجل كريم أي: شريف فاضل صفوح يعطي، فهنا أخرج الله لكم من النبات من كل زوج كريم، فأكرمكم الله بذلك، وأعطاكم من وفير ما خلق لكم، ألا تبعدونه سبحانه؟! قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين))، هذه الآية يكررهما الله عز وجل في القرآن عدة مرات، كلما ذكر قصة قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٨ - ٩]، فيكرر ذلك لتتدبروا في كل آية، والله عز وجل في كتابه إذا أراد أن يعظ الخلق كرر لهم ذلك، كما كرر في سورة الرحمن واحداً وثلاثين مرة قوله: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣]، فكان كلما ذكر نعمة للإنس وللجن قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ)) أي: بأي نعمة من نعم الله تكذبون بها؟ وهنا يذكر لنا الآيات ويكرر كذا مرة ويقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٨ - ٩].
قوله: ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ))؛ وذلك لأنهم لا يتفكرون ولا يوقنون ولا يؤمنون بأن الله وحده هو الذي يستحق العبادة، ولذلك قال لنا في الآية الأخرى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣] أي: أكثر الناس من أهل الباطل، وأهل الحق قليلون، ولذلك في يوم القيامة ينادي ربنا سبحانه آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقول: (يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة).
وقال سبحانه هنا: ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: الأكثرون هم الذين يعرضون ويكذبون، والأقلون هم المؤمنون، فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان.
يقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٩] أي: وإن كان أكثرهم كافرين فلا يحتاج إليهم ربهم سبحانه؛ لأنه الغني سبحانه، فهو مستغن عنهم وعن عبادتهم إنه العزيز القوي القاهر الذي لا يغالب أبداً سبحانه.
((وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ)) فبدأ بعزته سبحانه وتعالى واستغنائه عن خلقه، ثم عقب بذكر رحمته، وإن كان الغالب في كتابه أن يبدأ بالرحمة قبل ذكر صفات العزة والقوة، ولكن هنا لما ذكر أن أكثرهم كافرون فالمناسب ذكر عزته وقدرته وقوته سبحانه.
قوله: ((الرَّحِيمُ)) فرحمته خاصة بالمؤمنين، فيعذب الكافرين ويرحم المؤمنين.