تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر)
قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: ٦٣].
ذكروا أن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج من مصر متوجهاً إلى الشام هو ومن معه تاهوا عن الطريق، فتعجب موسى من ذلك، فسأل من معه لماذا يحدث ذلك؟ فقال علماء بني إسرائيل: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا.
فقال موسى: فأيكم يدري مكان قبره؟ -وهذا الحديث ذكره أبو يعلى والحاكم وصححه، وصححه أيضاً الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة- فقالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى عليه الصلاة والسلام فقال: دليني على قبر يوسف.
قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، تعني: إذا أعطيتني ما أريد دللتك على مكان القبر.
فقال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة.
فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ثقل عليه ذلك، فالجنة ليست بيده حتى يوافق على ذلك، فلما تحير موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: أعطها حكمها.
فلما أعطاها ما أرادت دلتهم على المكان وكان قد غطته المياه، فاحتفروا واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها إذا بالطريق مثل ضوء النهار.
والمقصود بالعظام جسد يوسف الصديق؛ لأن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولذلك جاء: (أن تميماً الداري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يحمل عظامك؟!)، والمنبر لن يحمل العظام بل سيحمل الجسد كله، فالعظام تطلق على الجسد.
قال: فأوحى الله إلى موسى أن أعطها حكمها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة فقالت: انضبوا هذا الماء، فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام، فتبينت لهم الطريق مثل ضوء الشمس، أو مثل ضوء النهار.
وجاء في سبب ذكر هذه القصة التي ساقها النبي ﷺ في حديث أبي موسى (أن النبي ﷺ نزل بأعرابي، فطلب منه أن يأتي إليه إلى المدينة؛ حتى يكافئه على معروفه، فنزل الأعرابي ضيفاً على النبي ﷺ فأكرمه، ثم قال له: حاجتك؟! يعني: سلني ما تريد.
فقال: ناقة أركبها، وأعنزاً أحلبها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟!)، يعني: أعجزت أن تطلب مثل ما طلبت! فقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: وما عجوز بني إسرائيل، فقص عليهم هذه القصة.
فبدلاً من أن يطلب الأعرابي الآخرة طلب حاجته في الدنيا، ولكن غيره من أصحاب النبي ﷺ الذين كانوا يخدمونه كان يقول لأحدهم: سلني، فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة.
فكان النبي ﷺ يقول: أعني على نفسك بكثرة السجود، يعني: أكثر من السجود، وأكثر من القيام حتى أدعو لك فتكون معي في الجنة.
والغرض أن الله سبحانه أخبر أنه أخرج بني إسرائيل من مصر وأهلك فرعون، فلما كاد فرعون أن يصل إلى موسى ومن معه إذا بالله عز وجل يوحي إلى موسى ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: ٦٣].
وكان بنو إسرائيل وقتها في غاية القلق، فيسألون: أين أمرك ربك أن نسير؟ فكان يشير إلى البحر، فيأتي أحدهم يريد أن يقتحم البحر فلا يقدر، فيرجع إلى موسى، وهنا جاء الأمر من الله عز وجل أن اضرب البحر بعصاك.
وعصا موسى عصا عجيبة، كانت فيها آيات عظيمة، قال: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٨] يعني: حال سيرى، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ [طه: ١٨]، أي: أضرب الشجر فتسقط الأوراق لتأكلها الأغنام، ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: ١٨] أي: لي فيها منافع أخرى.
وهذه العصا صارت حية بعد ذلك، وكانت آية لموسى وعلامة على نبوته عليه الصلاة والسلام ومعجزة له من عند ربه سبحانه، ثم كانت آية لفرعون وجنوده فلم يتعظوا ولم يعتبروا.
ثم كانت آية في مرة أخرى عندما كان موسى عليه الصلاة والسلام يغتسل وحده، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكأن ذلك كان جائزاً في شرعهم، وكانوا يقولون: إن موسى لا يغتسل معنا لأنه آدر، أي: فيه عيب في خلقته فيستحي أنه يكون معنا.
فإذا بموسى يغتسل مرة ويريد الله عز وجل أن يبرئ موسى مما يقولون فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بها، فإذا بموسى يجري وراء الحجر ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر.
فنظر إليه بنو إسرائيل فوجدوا أنه سليم ومن أصح الناس، فلما أخذ الحجر ضربه بعصاه فجرح الحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بالحجر لندباً من أثر الضرب) فكأن الحجر حين جرى صارت له الطبيعة الإنسانية، فعوقب كما يعاقب الآدمي، فكانت العصا في يد موسى يضرب بها هذا الحجر.
وهنا مرة أخرى يضرب بها جماداً وهو البحر، فهذا من عجيب آيات الله سبحانه وتعالى فلما ضرب البحر قال الله عز وجل: ﴿فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣].
وقال له سبحانه: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان: ٢٤].
يعني: وقفت الأمواج في مكانها، وشقت الضربة البحر وفلقته، فإذا في البحر اثنا عشر طريقاً، لك سبط من أسباط بني إسرائيل طريق يسيرون فيه وذلك بضربة عصاه عليه الصلاة والسلام.
والله عز وجل يخبر أن البحر أصبح رهواً، أي: جامداً كأنه ثلج، وأمواج البحر كما هي ماء ولكنها واقفة في مكانها، وينضب البحر في الأماكن التي يسير فيها موسى ومن معه من بني إسرائيل: ﴿فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣].
ويذكر الله لنا أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى﴾ [الشعراء: ٦٢ - ٦٣].
فجاء الوحي وهو قوله: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ﴾ [الشعراء: ٦٣]، أي: جزء من البحر: ﴿كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: ٦٣]، أي: كالجبل العظيم.


الصفحة التالية
Icon