تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون)
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤]، فالمؤمنون بالآخرة: هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [النمل: ٣]، والكفرة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ [النمل: ٤]، هذا حالهم، وسبب عدم كونهم كهؤلاء المؤمنين يؤمنون بالآخرة، ويصدقون، ويوقنون قوله تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤]، وهذا من مكر الله عز وجل، ومن استدراجه لهؤلاء الكفار، قال تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣].
والإنسان الذي يريد الله عز وجل به الخير دائماً يذكره بالله سبحانه، ويبتليه بشيء حتى يرجع إلى الله سبحانه، والإنسان الذي يكون في غفلة وبعد عن رب العالمين، ولا يريد الله به الخير يجعله في عمى، بل في عمه، قال تعالى: ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤]، والعمى والعمه متقاربان، ولكن العمى عمى البصر، وقد يكون عمى القلب، والعمه لا يكون إلا في قلب الإنسان، يعني: في بصيرة الإنسان، فقوله تعالى: ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤] يعني: في غاية العمى والضلالة، فهم بعيدون عن ربهم سبحانه، بعيدون عن طاعة الله رب العالمين سبحانه، فقوله تعالى: ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤]، أي: يتحيرون ويتشككون، لا يعرفون طريقاً يهتدون إليه، قال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] وقال الله سبحانه في سورة الكهف: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤] فهو إنسان ضال مستمر في ضلاله حتى يقع وهو يظن أنه على الطريق الصحيح.
فهؤلاء زين لهم ربهم أعمالهم، قال تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤].
وقد خلق الله عز وجل الأشياء فإذا بهؤلاء ينظرون إلى ما أمامهم فتزينت الدنيا لهم فأحبوها، وتكالبوا عليها، ونسوا ربهم سبحانه وتعالى، والإنسان الذي يريد الله عز وجل به الخير يذكره ولا يفتنه مهما تزينت له الدنيا، فيجعل الله له بصيرة ينتبه بها، فيرجع إلى الله يوماً من الأيام، والإنسان البعيد عن ربه إذا تزينت له الدنيا ظن أن الدنيا هي الآخرة، قال تعالى حاكياً عن الكفار: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤]، أي: أن الدنيا هي الحياة الأبدية، قال تعالى: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤]، أي: مرور الأعوام والدهور تهلكنا كما أهلكت الذين من قبلنا، فنحن نأخذ من الدنيا ما نقدر عليه، فتتزين لهم الدنيا ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤]، أي: يتحيرون، ويترددون، ويتشككون، ويتكالبون على الدنيا، وينسون ربهم سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤]، أي: أعمالهم القبيحة وكفرهم، ويظنون أنهم على الطريقة الصحيحة، فتتزين لهم الدنيا ويتزين لهم هذا العمل، فيفرحون بما هم فيه، فإذا ما عقلوا يوماً من الأيام وهداهم الله تبينت لهم الأشياء على حقيقتها، وعرفوا أنهم كانوا في ضلال، فقد كان أهل الجاهلية يعبدون غير الله، ويظنون أنهم على الصواب، ويتعجبون من النبي ﷺ ويقولون: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥]، فقد زين لهم الشيطان هذا العمل الذي يعملونه.
فالله سبحانه خلق الدنيا على جمال معين، وخلق فيها الفتن، وخلق الشيطان والشهوات، وهذه المخلوقات تفتن من فيها إلا أن يعصم الله عز وجل من يشاء من خلقه.
فقوله تعالى: ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٤]، أي: خلقنا في قلوبهم ما يفرحون بهذه الأشياء التي يرونها أمامهم، فخلقنا الشيطان والكفار يفتنون هؤلاء؛ فتزينت لهم الدنيا، وخلقنا لهم أموالاً ففتنوا بهذه الأموال، فجمعوها وفرحوا بها فنسوا ربهم سبحانه وتعالى، وظنوا أنهم على الصواب.
كذلك تزينت لهم هذه الدنيا فتكالبوا عليها، وقيل: رأوا أعمالهم السيئة حسنة ككفرهم بالله، واستحسنوا هذا الشيء كظلمهم لغيرهم، وقيل: إنهم قالوا أيضاً: زين الله لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها، يعني: بين لهم أن هذه الأعمال حسنة، ومع ذلك لم يعملوا بهذه الأعمال الحسنة.