تفسير قوله تعالى: (وورث سليمان داود)
قال الله عز وجل: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ [النمل: ١٦]، والميراث هنا: ميراث العلم، أما ميراث الملك فقد جعل الله عز وجل لهذا ملكاً ولهذا ملكاً.
وقد كان لداود أولاد غير سليمان عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد قالوا: كان له تسعة عشر ولداً، ولكن الذي ورث العلم وورث النبوة وصار ملكاً بعد أبيه هو سليمان عليه الصلاة والسلام.
فقد ورثه الله عز وجل العلم والنبوة وهذا أعظم الميراث، وإلا لو كان المقصود الميراث المالي لكان الإرث في التسعة عشر، وليس لسليمان فقط، إذاً: الإرث هنا: هو إرث النبوة، وقد جاء في حديث النبي ﷺ قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة).
فالأنبياء لا يورثون معهم من الأموال؛ بل يكون بعد وفاتهم صدقة، وإنما الميراث الذي يورثه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو العلم؛ ولذلك جاء عن النبي ﷺ أنه قال: (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
أي: من أخذ العلم أخذ بحظ وافر فهو أعظم الميراث، فأعظم النعم التي أعطاها الله عز وجل لسليمان ولأبيه هي العلم، وهذا هو الذي ورثه داود لابنه، العلم والنبوة، كما أنه صار ملكاً من بعده.
وقد قال الله سبحانه وتعالى لداود في سورة (ص): ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦]، مع أن داود نبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإنه يحتاج للنصيحة، فغيره من باب أولى، فهو ينصح داود ويقول: لا تتبع الهوى يا داود! وأنت ملك من الملوك، فإذا اتبعت الهوى وأنت نبي ملك أضلك عن سبيل الله، قال: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ﴾ [ص: ٢٦] أي: يتيهون، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: ٢٦].
وذكر داود وسليمان في سورة الأنبياء فقال: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٨ - ٧٩].
فالله عز وجل منّ على داود بأن جعله ملكاً حاكماً، فآتاه حكماً وآتاه علماً من عنده سبحانه، وعلم سليمان أيضاً، والعلم من أعظم ما يؤتاه الإنسان، فآتى الله سليمان وآتى أباه داود علماً وحكمة ونبوة وملكاً.
فذكر في سورة الأنبياء أنه فهم أحدهما أكثر من الآخر، قال: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] والحرث: الزرع، ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، قوم لهم أغنام يدعونها بجوار المزرعة، فإذا بالأغنام تدخل المزرعة، قال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
قال تعالى: ﴿إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: ٧٨] أي: أكلت وخربت الزرع وقلعته، ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، والذي يحكم هو داود وسليمان، ومع ذلك لم يقل: لحكمهما، بل قال: (لحكمهم)؛ لأنهما يحكمان في الناس، فالخصوم هم أصحاب الأرض وأصحاب الغنم، والحاكم سليمان وداود، فهم أربعة، فكنا لحكم هؤلاء الأربعة شاهدين.
ثم قال تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]، وسليمان آتاه الله عز وجل فهماً، وآتى أباه عبادة عظيمة جداً، ولكنه ميز سليمان بفهم عظيم، وقال: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا﴾ [الأنبياء: ٧٩]، يعني: أعطينا للأب العلم والملك والحكمة والحكم، وآتينا سليمان حكمة أعظم مما آتينا أباه، فقال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]، وقد كان صغيراً عليه الصلاة والسلام، وكان داود قد حكم أن قيمة ما أفسدته أغنامهم من الزرع يساوي قيمة الغنم، إذاً: تعطى الغنم لأصحاب المزرعة.
وهذا الحكم فيه صواب، لكن غيره أحسن منه، فقد حكم بالقيمة عليه السلام، لكن نظرة سليمان كانت بتفهيم الله عز وجل أعظم، فلو أنهم أخذوا الأغنام لافتقر أصحابها، ولو أخذ هؤلاء الأغنام لما اعتنوا بها؛ لأنهم أصحاب زرع وحرث وليسوا أصحاب غنم، فلذلك حكم بحكم آخر وهو: أن يأخذ أصحاب الزرع الأغنام فينتفعون بها حتى يصلح أصحاب الأغنام الزرع كما كان، ثم يعيد أصحاب الحرث الغنم لأصحابها، ويعيد أصحاب الغنم الحرث لأصحابه كما كان، ففهم الله عز وجل سليمان أعظم من داود، مع ذلك لم يخطئ الله عز وجل داود، وإنما قال: ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩]، وكثيرة هي الحوادث التي فهمها الله عز وجل سليمان عليه السلام، وغيبها عن أبيه عليه السلام، ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما) فالمرأة التي أكل الذئب ولدها أخذت ابن الأخرى خوفاً من زوجها فاختصمتا في الولد، فقالت الكبرى للأخرى: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقضى به للكبرى للشواهد والأمارات التي أمامه، وظن أن الكبرى هي الصادقة.
فأخذت الكبرى الغلام، فخرجتا من عند داود إلى سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: ائتوني بالسكين، حتى أشق الولد بينكما نصفين، فلما قال ذلك قالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها.
فعلم أنها هي الصادقة وأنها أمه، فالأم لا تريد قتل ابنها، وعلم أن الأخرى كاذبة، وإنما أرادت أن تتساويا في المصيبة، فيكون ابنها أكله الذئب، ويكون قد ذبح ابنها فتتساويا في المصيبة، فعلم صدق إحداهما وكذب الأخرى، فقضى به للصغرى، وهذا مما علمه الله عز وجل سليمان عليه السلام.
قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٦]، وهل علموا منطق الطير فقط؟ لا، ولكن هذا الشيء من الغرائب.
فقد علم علم الشريعة، وعلم ألسن الناس والجن وغيرهم، لكن أعظم من ذلك مما لا يعرفه الناس علم منطق الطير، وكيف تتكلم الطيور، إذاً: الطير لها لغة تتكلم بها، وكذلك الحشرات وغيرها من مخلوقات الله، فقد جعلها الله أمماً، وكل أمة لها لسان وطريقة تتخاطب بها مع بعضها.
وهذا الذي يبحثه علم الحيوان، فإنه يبحث في لغات الطيور وكيفية كلامها، وكيف أن بعضها يرشد إلى الطريق؟ وكيف تسير النحل؟ وما هي الرقصات التي ترقصها في الهواء، والتي تدل على أنها ستذهب للخلية التي وجدت عندها العسل مثلاً.
فهنا الله عز وجل علم أنبياءه منطق الطير، وأثبت في القرآن أنه جعل لها لغة، قال سليمان: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ﴾ [النمل: ١٦]، أي: لغة الطير: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ١٦] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخصوص، فالله عز وجل هو وحده الذي له كل شيء، أما غيره من خلقه فقد يؤتيه من الأشياء الكثير، فحين يقول: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ١٦]، فإنه يعني: مما ينبغي لأمثالنا، فهو مقيد بالحسن.
والعموم قد يقيد بالعقل، وقد يقيد بالخصوص وغير ذلك، فهذا من العموم الذي يراد به الخصوص، أو الذي قد خصص بالحس وبالعقل، فإن الله أعطى سليمان كل شيء يليق بمثله في ملكه.
وكذلك في قوله سبحانه: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٥]، فإن الحس يدل على أن هناك مساكن موجودة، فيكون قوله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٥] من العموم الذي يراد به الخصوص، فهي تدمر كل شيء أراد الله عز وجل تدميره.
ثم قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل: ١٦] أي: أنه فضل واسع عظيم بين من فضله سبحانه وتعالى.