تفسير قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)
قال الله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥]، هذه تسلية للمؤمنين، يعدهم الله سبحانه أن يثبتهم ويمن على المستضعفين، وهذه السورة مكية، وآية منها نزلت على النبي ﷺ وهو مهاجر من مكة وهو في الجحفة، حيث أنزل الله عز وجل عليه يثبته ويطمئنه ويواسيه ويسليه: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: ٨٥]، أي: الذي فرض عليك القرآن فدعوت الكفار إليه فشددوا عليك وآذوك حتى أخرجوك من مكة التي هي أحب البلاد إليك، كما قال: (لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)؛ فيسليه الله عز وجل بأنه سيرجع مرة أخرى إلى هذه البلدة التي أخرجوه منها.
وذكر الله عز وجل استضعاف فرعون لبني إسرائيل، وقد نصرهم الله عز وجل بعد ذلك، فليس بعزيز على الله سبحانه أن ينصركم وأن يمكنكم، ومن سنة الله عز وجل أن يجعل الناس منهم الضعفاء ومنهم الأقوياء، منهم الأقلية ومنهم الأكثرية، ثم يقلب موازين الكون بعد ذلك فيمن على المستضعفين ويمكن لهم، حتى يرى كيف يعملون، فإذا استقاموا على سنة الله عز وجل أعطاهم الخيرات وثبتهم، فإذا انقلبوا أعاد الأمر عليهم مرة ثانية، فالله يقلب هذه الدول كما يشاء سبحانه، وأمرهم يدور بين قوة وضعف، بين عزة وصغار، بين قلة واستكثار.
قال سبحانه تبارك وتعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ [القصص: ٥] يعني: قادة في الخير، يقتدى بهم في الخير بعدما كانوا مستضعفين مستذلين لا يعبأ بهم، يقول الأقوياء لأنبيائهم: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: ٥٤]، أي: هؤلاء ضعفاء ليس عندهم رأي حتى نتبعهم.
فالله عز وجل يمن عليهم ويجعلهم قادة في الخير في يوم من الأيام، ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ [القصص: ٥]، دعاة إلى الخير، قال: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥] أي: نورثهم هذه الأرض بعد أن نهلك المستكبرين.
وهل بنو إسرائيل أورثهم الله عز وجل أرض مصر بعدما أهلك فرعون؟ هم ما ملكوا مصر، والله ما قال هنا: نورثهم ملك فرعون، ولكن قال: (ونمكن لهم في الأرض) أي: في أي أرض من الأراضي؛ ولذلك أذن لهم الله سبحانه وتعالى في الخروج من مصر فخرجوا، فلما عبروا البحر وأغرق الله فرعون لم يرجعوا إلى مصر وإنما ذهبوا إلى الشام مع نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فمكن الله لهم هناك.
وأرض الشام كانت أرض العمالقة الجبارين كما قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢] فكان فيها أناس أشداء أقوياء، مثل الحثيين والكنعانيين والآراميين، فالله عز وجل أورث بني إسرائيل من هؤلاء الأرض التي كانوا فيها، ولم يورثهم ملك فرعون، بل ملك فرعون توارثه الفراعنة بعد ذلك، وكان لهم عبرة فيما حدث لفرعون ولكنهم لم يعتبروا بما حدث فيهم.
قال سبحانه تبارك وتعالى: ﴿َنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ﴾ [القصص: ٥]، وقد فعل ذلك سبحانه وتعالى، ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ [القصص: ٥]، وقد فعل ذلك، ثم قال: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥]، فأورثهم أرضاً، وهو لم يقل: نجعلهم وارثين لأرض فرعون، ولكن قال: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [القصص: ٥ - ٦]، فمكن الله سبحانه تبارك وتعالى لهم في أرض الشام.
قال الإمام القرطبي: أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يستولوا عليها، يعني: أرض الشام وأرض مصر، ولكن الظاهر من كلام المفسرين وأهل التواريخ أنهم لم يرجعوا إلى مصر، وإنما كانوا بعد ذلك في الشام، وحصل لهم التيه هنالك، ثم استولوا على الأرض التي هناك على ما ذكر الله سبحانه وذكر أهل التواريخ.