تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى بادئاً قصة موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧].
هذا إلهام من الله عز وجل، فهو حديث في نفسها من عند الله سبحانه وتكون مستيقنة بهذا الذي تفعله، ولا تملك أن ترده، وليس كل وحي من الله عز وجل للإنسان يكون دلالة على أنه نبي، فالله عز وجل أوحى إليها بالنفث في روعها أو أرسل إليها من يقول لها ذلك، وليس هذا دليلاً على أنها نبية.
وكذلك السيدة مريم عليها السلام أوحى الله عز وجل إليها ومع ذلك ليست نبية، وكذلك أوحى ربك إلى النحل، فالنبي ينزل عليه وحي من عند الله سبحانه ينبئه بأمر الغيب، ويأمره أن يأمر الناس بعبادة الله وبالتوحيد، ويعلمه الله من أمور الغيب ما لا يعلمها غيره، والرسول هو من كان نبياًَ وأعطاه الله عز وجل شريعة ورسالة من عنده، وأمره أن يبلغ هذه الرسالة.
قال الله: ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧] هذه الآية العظيمة العجيبة عندما نظر إليها العرب ما ملكوا إلا أن يذعنوا لفصاحة القرآن وبلاغة القرآن، ففي آية واحدة يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمرين ونهيين وبشارتين، فهذا مما يجعلهم يخضعون ويقرون أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، وقد تحداهم الله وقال: ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ﴾ [القصص: ٤٩] أي: مثله، فلا يقدرون، وقال: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣]، فلا يقدرون، وقال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك عرف الناس فضل هذا القرآن وفصاحة هذا القرآن بما ذكره الله عز وجل فيه، وهذا من إعجاز هذا الكتاب العظيم.
يقول الأصمعي وهو من أئمة اللغة: سمعت جارية أعرابية من الأعراب وهي تنشد وتقول: أستغفر الله لذنبي كله قتلت إنساناً بغير حله مثل الغزال ناعماً في دله فانتصف الليل ولم أصله فقال لها: قتلك الله ما أفصحك! فقالت له: أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين! فهذا إمام من أئمة اللغة يقول لها: أنت فصيحة، وهي تقول: كلامي لا شيء إذا قورن بهذا القرآن العظيم، فالذي يتكلم عن الفصاحة ليس آحاد الناس، ولكن يتكلم أهل الفصاحة وأهل اللغة، لذلك بعض الناس يقولون: ما المانع أن يؤلف مثل هذا القرآن، فنقول لهم: ألفوا، وهاتوا مثل هذا القرآن، فيقوم إنسان يخرف في الإنترنت ويأتي إلى سورة من السور ويزيل منها كلمات ويضع بدلها كلمات أخرى، ثم يقول: أنا ألفت مثل هذا القرآن! وبعض المغفلين يقول: لقد ألف مثل القرآن، وهؤلاء لا يفهمون اللغة العربية أصلاً، ولا يعرفون معنى الفصاحة ولا معنى البلاغة، والذي يحكم على ذلك هم أهل اللغة وأهل الفصاحة وأهل البلاغة الذين يتذوقون الكلام فيعرفون أن هذا كلام فارغ لا يقارن مع فصاحة القرآن التي أعيت العرب، ولو كان الأمر يسيراً، لكان أبو جهل وأبو سفيان والوليد بن المغيرة يقولون مثل هذا القرآن، لكنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالقرآن كلام رب العالمين، ووعد الله حق، فالله يتحدى الناس بهذا القرآن، ولا يقدر أحد أن يثبت أمام هذا التحدي، وإذا جرب أتى بكلام فارغ خال من فصاحة القرآن وبلاغته وإعجازه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.