تفسير قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها)
قال سبحانه: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] مر وقت طويل غير مذكور في القرآن أن موسى تربى في بيت فرعون تربية ملوك، حتى إنه كان يدعى ابن فرعون، فصار له عزة وصار له تمكين، وأمه لا شك أنها أخبرته أنه من بني إسرائيل وأنها أمه الحقيقية؛ لذلك كان يحن على بني إسرائيل وكان ينصرهم، فموسى منع أذى آل فرعون لبني إسرائيل، وهذا من فضل الله عز وجل ومن حكمه الذي آتاه موسى.
وشب موسى عليه السلام على قوة في قصر فرعون، وهو مع بني إسرائيل رءوف رحيم بهم، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها في يوم من الأيام، وهذا يدل على أنه كان خارج المدينة، فقد يكون بينه وبين فرعون شيء قبل ذلك جعله يخرج خارج المدينة؛ لذلك عبر الله سبحانه وتعالى بأنه ﴿دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥].
إذاً: عرف موسى عليه الصلاة والسلام أن بني إسرائيل هم شيعته، وكان بنو إسرائيل يعرفون ذلك، لذلك استنصره هذا الإسرائيلي على القبطي من أهل مصر، قال تعالى: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] أي: استصرخه في الحال.
وذكر المفسرون أن الرجل القبطي كان خبازاً لفرعون، فأراد من الإسرائيلي أن يحمل له حزمة حطب كعادتهم في تشغيل الإسرائيليين فرفض الإسرائيلي وتعزز بموسى عليه الصلاة والسلام وكان القبطي أقوى منه فضربه، فجاء موسى ووجد الأمر على ذلك والإسرائيلي يستغيث بموسى عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن وكز القبطي بكوع اليد وكزة في صدره، فكانت الوكزة قوية فقضى عليه، ولم يقصد ذلك عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تاب إلى الله عز وجل من ذلك، وإنما قصد المعاقبة وتخليص الاثنين، فضرب هذا العدو فكانت الضربة شديدة تدل على قوة موسى.
ولما رأى الرجل مات قال: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ [القصص: ١٥] أي: أنا لا أقصد أن أقتله، فهو لم يوح إليه بعد أنه رسول عليه الصلاة والسلام وكان هذا قبل الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، فهذا من موسى كان خطأً؛ ولذلك قال فرعون: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٨] أي: ربيناك فقتلت نفساً بغير حق قبل ذلك، ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩] وفرعون هو الكافر.
فالمقصود هنا: أنت من الكافرين بنعمتي عليك فقد ربيتك وعلمتك، ثم بعد ذلك كفرت هذه النعمة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً أنه فعل ذلك: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: ٢٠] أي: ولكني فعلتها وأنا من الضالين، ضل أي: أخطأ في الطريق الصحيح، فليس معنى كلامه: إني كنت من الضالين عن عبادة الله سبحانه، لكنه يقصد: إني أخطأت في هذا الشيء الذي فعلته؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾ [يوسف: ٩٥] فلو قصدوا أنت في كفرك وبعدك عن الله لكفروا، ولكن لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا أنه ما زال في الوهم من أجل يوسف، وهذا مقصود كلامهم بالضلال القديم، يعني: في توهمك وأنت مخطئ، وكانوا كاذبين في قولهم ذلك له.
فالغرض أن موسى عليه الصلاة والسلام لما وكز هذا القبطي قال: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: ١٥] فالشيطان عدو، إذا دعا دعا إلى الضلال، فهو مضل وضلاله بين واضح، ولكن عذر موسى عليه الصلاة والسلام أنه لم يقصد القتل، وإنما كان يقصد نصرة الحق.