تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى)
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [القصص: ٤٣].
لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى بقصة فرعون وكيف أنه سبحانه أهلكه وأتبعه في هذه الدنيا لعنة، وجعله هو وقومه يوم القيامة من المقبوحين، وجعلهم أئمة يدعون إلى النار، ذكر بعد ذلك للنبي ﷺ أن الله عز وجل قد آتى موسى الكتاب، يعني: التوراة من بعد هلاك قرون سابقة، يعني: لم يكن هذا الأمر جديداً، ولم يكن بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن كما فعل الله بقوم فرعون فعل بقرون سابقة بأقوام قد كفروا بالله سبحانه وكذبوا المرسلين، فأهلكهم الله سبحانه، كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم لوط وأصحاب مدين وغير ذلك من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فقد جعلهم الله عز وجل عبرة، وآتى موسى الكتاب يذكره بهؤلاء كيف صنع بهم.
قوله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)) أي: أعطيناه وأنزلنا عليه التوراة، ((مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى)) القرون: جمع قرن، والقرن الأمة من الناس الذين يدركهم زمان واحد، فنقول مثلاً: القرن الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من رأى النبي ﷺ وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاشوا بعد النبي ﷺ وقد رأوه فهؤلاء قرن، حتى إذا انقرض هؤلاء، فقد انقضى قرن من القرون، ثم قرن يليهم الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا أصحاب النبي ﷺ فهؤلاء قرن حتى ينقضي آخر هؤلاء ممن رأى الصحابة، فيأتي قرن آخر وهم الذين لم يروا أصحاب النبي ﷺ ورأوا الذين من بعدهم وهكذا، قرون في أزمنة متتالية، فأهلك الله عز وجل قروناً كثيرة، إما بالعذاب، وإما بالموت الذي يأتي على الجميع.
قوله: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ أي: آتينا موسى التوراة بصائر للناس ليتبصروا وليتذكروا، وليعتبروا بهذه التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم قال: ﴿وَهُدًى﴾ [القصص: ٤٣] من الضلالة لمن عمل بها.
فإذاً: التوراة تبصرة للناس وكذلك هداية من الضلالة لمن عمل بها ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإنزال الكتب السماوية رحمة من الله عز وجل للعباد.
كان من الممكن أن يكتفي سبحانه بما جعل في قلوب العباد من فطر تعرف ربها سبحانه ويحاسبهم على ذلك، وقد أخبرنا في كتابه سبحانه وتعالى أنه جمع هؤلاء الخلق في يوم من الأيام وفي زمن الأزمنة قبل أن يوجدهم هكذا على هذه الأرض، فأخذهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم، فقال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: ١٧٢] هذا ميثاق من مواثيق الله عز وجل على عباده، لا يذكر العباد هذا الموقف، ولكن الله يذكرنا به: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: ١٧٢] أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٧٢].
كأن الناس وهم في الدنيا يغفلون عن ذلك، ولكن كل إنسان في قلبه ما يدل على خالقه سبحانه، فالذي يقول: لا خالق لا رب لا إله، هذا كذاب شهد الله عز وجل أن في قلبه ما يدله على الخالق سبحانه، حتى وإن نطق بلسانه بخلاف ذلك.
ومن أفظع وأعظم هؤلاء الكذابين فرعون، هذا الذي قال للناس وأمرهم أن يعبدوه من دون الله، قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، أي: ما علمت من يستحق العبادة إلا أنا، فهذا الكذاب اللعين قال ذلك، وقال لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، فلا استقر على هذا الذي قاله ولا استمر عليه حتى مات، بل لما أهلكه الله قال مستغيثاً بالله: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠].
هذا الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وقال: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: ٣٨]، فهذا أعظم الكذابين المفترين قال في وقت هلاكه وغرقه: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس: ٩٠].
صدق الله العظيم حيث أخبرنا في كتابه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]، فكل إنسان مهما تعالى ومهما استكبر ومهما زعم أنه مخلوق بالصدفة، فإن في قلبه ما يدل على خالقه سبحانه وتعالى، ولكنه جاحد، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣]، فهم يكذبون آيات الله مع معرفتهم أنها الحق، فربنا سبحانه وتعالى جعل في قلوب العباد فطراً تدلهم على خالقهم سبحانه وتعالى.
أيضاً أخذ عليهم الميثاق الذي غفلوا عنه، فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: ١٧٢]، كذلك جعل في كل إنسان عقلاً يتفكر ويعرف أن كل أثر يدل على المؤثر في هذا الأثر، وكل شيء يدل على واجد هذا الشيء، فالإنسان بعقله لو فكر واستقام عقله وبعد عن الهوى وعن الشهوات وعن العصبيات لعرف أن الله هو خالقه، وأنه الحق الذي يستحق العبادة سبحانه وتعالى.
كان من الممكن أن يكتفي ربنا سبحانه وتعالى بذلك، ولكن نزل الكتب رحمة منه سبحانه، كما قال هنا: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى﴾ [القصص: ٤٣] تبصيراً للناس، فإن كنت متغافلاً فهذه الكتب تدلك على خالقك سبحانه وتعالى، وتدلك هذه الآية على معجزة من معجزات نبيك صلوات الله وسلامه عليه، وتهديك إلى صراط مستقيم.
قوله: ((وَرَحْمَةً)) أي: أن إنزال الكتب رحمة من رب العالمين، لو لم ينزل الكتب لاستحق الخلق عذاب رب العالمين.
قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) أي: لعلهم يتذكرون الآن ما نسوه قبل ذلك، فيهتدون، ولعلهم يذكرون النعم ويعبدون خالق هذه النعم سبحانه، ويقيمون على إيمانهم، ويثقون بثواب الآخرة.


الصفحة التالية
Icon