سبب تسمية هذه السورة بسورة العنكبوت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
هذه سورة العنكبوت كما ذكرنا في الحديث السابق، واشتهرت بهذا الاسم من عهد النبي ﷺ لكونها اشتملت على ذكر العنكبوت في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤١].
وكان المشركون كما يقول عكرمة رحمه الله إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بالتسمية وبالقرآن ويستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: ٩٥]، يعني: المستهزئين بهذا ومثله.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: ٢٦].
فالله عز وجل لا يستحيي أن يضرب المثل للشيء الصغير الذي هو في نظر الناس حقير.
والإنسان عدو ما جهل، بل ويستهزئ بما يجهله، فإذا تبين له بعد ذلك حقيقتة رجع إلى الأمر وتاب إلى ربه سبحانه وتعالى.
لكن المشركين نظروا إلى قوله سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١].
فالله عز وجل ذكر مثلهم في اتخاذهم أولياء وناصرين ينصرونهم من دون الله، وتعززوا بالشياطين وبأصنامهم وأوثانهم، فمثلهم في استنصارهم بذلك كمثل الذي يحتمي ببيت وواهن ضعيف.
فهم يحتمون بشركائهم ويستنصرون بهذه الطواغيت التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها شيئاً، فمثلهم كإنسان هجم عليه أعداؤه، فدخل يختبئ من الأعداء ويحتمي من ضرباتهم ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
وأي إنسان هذا الذي يحتمي ببيت العنكبوت فيحميه؟! فهذا مثل هؤلاء الكفار.
لذلك لما وجدوا أن القرآن يذكرهم بذلك، وأنهم كالذي يحتمي ببيت العنكبوت، إذا بهم يستهزئون، ولم ينظروا إلى حقيقة الأمر أن أولياءهم لا تنفع ولا تشفع ولا تضر ولا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً، ولكنهم تجاهلوا ذلك، وتغافلوا عنه، وزعموا أن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى.
فلما سمعوا كلمة العنكبوت ضحكوا واستهزءوا من النبي ﷺ ومما ذكر الله عز وجل، وعندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] سنجد أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة، ومعجزة من المعجزات التي لم يفهموها، ولم يعرفوا حقيقتها إلا بعد أن تقدم العلم، فظهر لهم هذا الشيء، وإن كان هذا المثال واضحاً: إنكم تحتمون بآلهتكم، وما الذي تصنعه لكم آلهتكم؟! ولو جاء إنسان من الكفار على آخر منهم وضربه بالسيف أمام هذه الآلهة ما أغنت عنه شيئاً، فكيف تعبدونها من دون الله سبحانه، وهي لا تملك لنفسها ولا لكم شيئاً؟! وكذلك ذكر الله عز وجل البعوضة والنمل، وهذه أشياء لا يذكرها الله تعالى إلا لحكمة، وأهل الجاهلية مع كفرهم وشركهم فعقولهم في عمى وضلالة، لا يفهمون ولا يحاولون الفهم لما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى.
إن هذه السورة بدأها الله عز وجل بالحروف (ألف، لام، ميم) فيتحدى هؤلاء الكفار: إن كلامكم مكون من هذه الحروف، فائتوا بمثل هذه القرآن، أو بعشر سورٍ من مثله، أو سورة واحدة من مثله.
فهم سخروا من القرآن لأنه ذكر الله عز وجل فيه العنكبوت والنمل والبعوض، ولكنه لما تحداهم لم يقبلوا هذا التحدي، والأكثرون لم يفعلوا ذلك، وعادة الإنسان العربي أن فيه عصبية، وفيه عناد، فإذا تحداه أحد قبل التحدي، ولكن من إعجاز القرآن أن الغالبية العظمى من هؤلاء لم يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي، ومن رءوس هؤلاء الكفار الوليد بن المغيرة الذي كان يعد من أفصحهم وأبلغهم، وأكثرهم مالاً وبنين، ومع ذلك كان كلامه عن هذا القرآن: إنه قرآن عجيب وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
وبعضهم حاول أن يؤلف مثل هذا القرآن، فبدأ يتكلم بكلام فيه تخاريف، فيذكر أشياء فيضحك عليه من حوله منه، كما فعل مسيلمة الكذاب، لما سمع سورة العصر من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد ذلك: وأنا أنزل علي، ثم تكلم عن الضب بكلام فارغ يصفه به، فجعل أصحابه يضحكون من الكلام الذي قاله، وقال له قائلهم: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب.
ومع ذلك تبعوه لكونه منهم، لا لكونه صادقاً.
فالغرض من ذلك بيان أن العرب الذين كذبوا النبي ﷺ قد قال الله عز وجل عنهم: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣].
أي: أنهم لا يقولون عنك كذاب، بل هم يجحدون آيات الله، وفي قرارة أنفسهم يعرفون أنك على الحق تماماً، ولكنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.