تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه)
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨].
وفي سورة الأحقاف قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ [الأحقاف: ١٥]، وفي سورة لقمان: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [لقمان: ١٤]، وفي سورة البقرة قال: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: ٨٣]، أي: أحسنوا إليهم إحساناً.
وفي سورة النساء قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: ٣٦].
فأمر الله عز وجل بالوصية بالوالدين.
وكذلك في سورة الإسراء ذكر الله عز وجل الوصية بالوالدين والإحسان إليهما فقال: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣]، فالإنسان ينظر إلى الذي أنعم عليه وأوجده وخلقه وهو الله سبحانه وتعالى فيعبده، وينظر إلى السبب في وجوده في الدنيا وهما والداه، فلهما فضل عليك أن أوجدك الله عز وجل بسببهما، ولهما فضل التربية لك، والرعاية، والعناية بك، والرحمة عليك، ولذلك قال الله سبحانه: ﴿وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤]، أي: رحماني وأنا صغير، وربياني وحملاني.
وقال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤]، فأمر العبد بالتواضع لوالديه وألا يؤذيهما ولو بكلمة أف التي هي أقل الكلمات التي تؤذي، فما بالك بما هو أعظم من ذلك؟! قال سبحانه هنا: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨]، أي: وصيناه أن يحسن إليهما بكل عمل فيه حسن، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: ٨]، أي: أطع والديك في أمر بمعروف أو في نهي عن منكر، وأطع والديك إذا أمراك بشيء مباح، أما إذا أمراك بمعصية فلا تفعل هذه المعصية ولا تطعهما، وصاحبهما بالمعروف حتى لو كانا كافرين يهوديين، أو نصرانيين، أو مشركين وثنيين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [لقمان: ١٥]، وهنا قال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [العنكبوت: ٨]، كيف يكون العمل عند ذلك؟ ﴿فَلا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: ٨]، قال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ﴾ [العنكبوت: ٨].
يعني: إذا اجتهدا وبذلا الجهد العظيم في دفعك عن طاعة الله سبحانه، وفي إيقاعك في الكفر بالله سبحانه فإياك أن تطيعهم في ذلك، ومع ذلك صاحبهما معروفاً، فلهما فضل عليك وهما أبواك.
قال تعالى هنا: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: ٨] وقال سبحانه: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: ١٥] ففي الآيتين لم يمنع الابن المؤمن من مصاحبة الأب والأم الكافرين، ولا من برهما والإحسان إليهما، وكذلك الإنفاق عليه أن ينفق عليهما.
بل قيل له: كن معهما في الخير، ولكن احذر من الطاعة في الشر، وفي المعصية والكفر.
ثم قال تعالى: ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: ٨]، ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ [لقمان: ١٥].
فقد يستسهل الإنسان المعصية، ولكن لما يتذكر أنه راجع إلى الله فيحاسبه، فالخوف من الحساب يمنعه من المعصية، ويدفعه إلى الطاعة، وفي سورة لقمان قال تعالى: ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ [لقمان: ١٥]، فإذا كان ينبئك بما كنت تعمل فمعناه: أنه سيحاسبك، فإن عملت الخير فلك الجزاء الحسن، وإن عملت الشر فعليك الوزر والحساب.
وذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إذ قال رضي الله عنه: أنزلت في أربع آيات: فذكر قصة وفيها قال: قالت أم سعد وكانت كافرة: أليس قد أمر الله بالبر؟ قال: بلى.
قالت: والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت فتعير بي أو تكفر.
وفي رواية قال سعد: وكنت باراً بأمي فأسلمت، يعني: أنه كان عظيم البر بأمه رضي الله تعالى عنه، قال: وبقيت أياماً على ذلك، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها يشجروا فاها بالخشب ويحطوا بداخله الطعام لكي لا تموت.
فلما استمر الأمر على ذلك ذهب لأمه وقال رضي الله عنه: يا أماه! -يقول ذلك على وجه التعطف والتحنن عليها- لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي.
فلما رأت الأمر على ذلك، وأنه متمسك بدينه أكلت.
فهذه من الفتن التي قد يبتلى بها الإنسان المتمسك بدينه، وقد تجد من يصلي فيقول أبواه: لا تصل، ولا تذهب إلى المسجد، فإذا تنازل عن أمور دينه شيئاً فشيئاً ضيع كل شيء، وإذا تمسك بذلك لعل الله عز وجل يهدي هؤلاء فيتركانه على ما هو عليه من طاعة ربه سبحانه.
فالإنسان عندما يبتلى بشيء من ذلك فليتذكر ما صنع سعد رضي الله تعالى عنه، وكيف أنه صبر لأمر الله سبحانه، وطاعة الله تبارك وتعالى فيها الخير والبركة.
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، أي: أنه فعلت أمه نفس هذا الشيء، وعيروه بذلك، فثبت فإذا بالله عز وجل يثبته في ذلك.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في جميع الأمة.
وهذا معناه: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.