تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم)
قال إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مجادلاً لقومه، وكأن الله سبحانه أسرع بالإخبار عما حدث لإبراهيم وكيف نجاه الله سبحانه ثم رجع إلى إتمام هذه القصة في مناقشة إبراهيم لقومه، قال: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٥] أي: أنكم ما عبدتم غير الله إلا لهذا الغرض ولهذا الهدف وهو المودة التي بينكم في الحياة الدنيا، ومن أجل أن يشجع بعضكم بعضاً ويعين بعضكم بعضاً، ويجامل بعضكم بعضاً، ويحب بعضكم بعضاً، فإذا حدث هذا في الدنيا فلن تنفعكم هذه المودة يوم القيامة، ((وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا)) تماثيل تعبدونها من دون الله، ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (مودة) كأنه مفعول لأجله، أي: من أجل المودة التي بينكم في الحياة الدنيا، وهذه فيها ثلاث قراءات للقراء: فـ حفص عن عاصم وحمزة وروح وخلف يقرءون: ﴿مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [العنكبوت: ٢٥].
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وقرأها رويس عن يعقوب: ((مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).
وقرأها باقي القراء: (مودةً بينكم في الحياة الدنيا).
(إنما اتخذتم من دون الله) كأنه على الابتداء، والخبر الذي اتخذتموه مودة بينكم في الحياة الدنيا، وباقي القراء يقرءونها: ((مَوَدَّةً بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: اتخذتم ذلك مودةً بينكم؛ لأن حاله أن يكون كذلك، أو لأجل المودة التي تكون بينكم في الحياة الدنيا.
((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)) لأنه ليس كل مودة تنفع صاحبها يوم القيامة؛ لأن آية الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فيحب المؤمن أخاه في الله، فينتفع بهذه المودة في الدنيا، ويوم القيامة أن يشفع أحدهم لصاحبه، وأن يظلهما الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله.
أما مودة الكفار فيما بينهم فهي فقط في الدنيا، ولكن يوم القيامة قال: ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥] وقال تعالى في سورة غافر: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾ [غافر: ٤٧] فيرد عليهم الكبار ويقولون: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ﴾ [سبأ: ٣٢] أي: نحن لم نمنعكم من الهدى وإنما كنتم مجرمين، فيحدث بينهم يوم القيامة وهم في النار شجار، فيتشاجر بعضهم مع بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً.
يقول سبحانه: ﴿وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ﴾ [العنكبوت: ٢٥]: ملاذكم نار جهنم، ولن تخرجوا من نار جهنم ((وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)).
يعني: هذه النار التي تكون يوم القيامة هي نار جهنم، وهي سوداء مظلمة على أصحابها، تضطرم عليهم، وهم في هذه النار يشتم بعضهم بعضاً كل يقول للآخر: أنت السبب الذي أدخلتني فيها، ثم يقولون: لو قلنا لخزنة النار أن يشفعوا لنا، فخزنة النار لا تجيبهم ولا ترد عليهم، فيصبرون صبراً طويلاً، فطال صبرهم ثم جزعوا، فقالوا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ [إبراهيم: ٢١] فقالوا لبعضهم: نادوا ربكم، فقالوا: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٧] أي: لن نعود إلى تكذيب الرسل، وظنوا أنه سيرحمهم، فأجابهم: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨].
فهذه نار جهنم التي يدوم مكثهم فيها لا حياة كريمة لهم فيها ولا راحة فيها ولا موت يستريحون به، لذلك المؤمن يتخيل ما يكون في النار، ويتذكر قول الله سبحانه: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٥].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon