تفسير قوله تعالى: (الم.
غلبت الروم)
السورة بدأها الله عز وجل بقوله: ﴿الم﴾ [الروم: ١] أي: هذه الحروف من اللغة العربية التي تقرءونها، والتي تكتبونها، والتي تقولون بها خطبكم وشعركم ونثركم، فإن هذا القرآن من هذه الحروف، ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، أي: هاتوا مثل هذا القرآن، فالقرآن لم نأت به بحروف أعجمية، بل هو من حروف تقرءونها وتكتبونها.
قال تعالى: ﴿الم﴾ [الروم: ١]، ففيها التحدي من الله عز وجل لعباده، هاتوا مثل هذا القرآن من مثل هذه الحروف.
قال تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ [الروم: ٢ - ٤]، وقال تعالى في سورة يوسف: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٢١]، فالله يطمئن المؤمنين أن الظلم وإن استمر فترة فإنه ينتهي، ولابد أن يأتي نور الله سبحانه وتعالى وعدله وحكمه سبحانه وتعالى.
وفي هذه الآية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي ﷺ بشيء سيكون، وقد كان عند الناس بالمعايير البشرية وبالمقاييس التي هم فيها مستحيل أن يحدث هذا الشيء، والله عز وجل يخبر في وقت ضيق المسلمين أن هذا سيحدث ولن يكون بعيداً، بل سيكون في بضع سنين! قال تعالى: ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: ٤] أي: يفرح المؤمنون بنصر الله، فالمؤمنون كانوا مضطهدين من قبل أهل الشرك، فأهل مكة كانوا مشركين، وكانوا يضطهدون المسلمين، ويؤذونهم ويعذبونهم، فكان المسلمون ينتظرون فرج الله سبحانه وتعالى ونصره، وقد أراهم الله عز وجل واقعةً بين الدولتين العظميين اللتين كانتا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دولة الفرس ودولة الروم، فقد جارت دولة الفرس على دولة الروم فإذا بهم يغلبونهم ويهزمونهم هزيمة منكرة، وكانت هزيمة فظيعة للروم، وكان الروم أهل كتاب نصارى، أما الفرس فقد كانوا عباد النيران؛ لذلك كان ميل المشركين من قريش إلى الفرس؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام والفرس يعبدون النيران، فالأمر قريب من بعضه، فكلهم يعبدون غير الله، فلذلك فرح المشركون بانتصار الفرس؛ لأنهم مثلهم لا كتاب عندهم من رب العالمين، ففرحوا وأغاظوا المسلمين، وأخبروا المسلمين أنهم وثنيون، وسينتصرون عليهم وإن كانوا هم أهل كتاب، كما انتصر الفرس وهم وثنيون على الروم وهم أهل كتاب، فأنزل الله آيات يطمئن فيها المؤمنين أن ذلك لن يدوم، إنما هي سنون قليلة، وتنتصر الروم على الفرس، فأخبر النبي ﷺ بذلك، ونزل القرآن بهذا المعنى بقوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ٢ - ٤]، أي: في بضع سنين وسينتصر الروم مرة ثانية.
فإذا بالمشركين يستهزئون بذلك، كيف ينتصر الروم وقد هزموا؟ وكانت المعايير الموجودة والمقاييس البشرية أن هذا مستحيل أن يحدث، كان هذا الكلام في عهد النبي ﷺ في الزمن المكي سنة ستمائة وعشرين ميلادية، ففيها هزمت الروم على أيدي الوثنيين أهل الفرس عباد النيران، وكانت الخسائر جسيمة جداً على الروم جراء هذه الهزيمة، حتى قالوا: لن تقوم لدولة الروم قائمة بعد ذلك، فإن الفرس أخذوا أطرافاً من بلاد الروم، وقد أغار على الروم أناس من الشمال أيضاً يقال لهم: الآفار والسلاف واللمبارديون وغيرهم، وكأن الدنيا كلها تكالبت على الروم، فلذلك قالوا: لن تقوم للروم قائمة بعد ذلك.
فجمع الروم الأموال للدفاع عن أنفسهم فقط وليس للغزو، فقد جمعوا كل الأموال الموجودة في مملكة الروم للدفاع عن أنفسهم، فوصل الأمر بهم إلى أخذ كل الأموال التي مع الناس، ومع ذلك لم تكف هذه الأموال للدفاع ولشراء العدد، فجمعوا الذهب والحلي والبرنز ليصيغوه أموالاً ينتفع بها الجيش للدفاع عن أنفسهم، حتى لا تضيع دولة الروم، وفي هذا الوقت الذي استشعر فيه الروم أنهم ضائعون وأن البلاد ضائعة يخبر الله المؤمنين أن دولة الروم لن تضيع، بل سيغلبون في يوم من الأيام، فانتظر المؤمنون ذلك؛ لأن الروم أقرب إليهم من هؤلاء المشركين، فبذلك قال الله عز وجل للمؤمنين أنه: ﴿مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: ٣ - ٤].
ثم بعد ذلك سيفرح المؤمنون بنصر الله سبحانه وتعالى، فأنجز الله عز وجل وعده يوم بدر بنصر المسلمين، وانتصر الروم في هذا اليوم على الفرس نصراً عجيباً جداً، فالله سبحانه إذا أراد شيئاً لا أحد يستطيع رده ومستحيل أن أحداً من الخلق يمنع ما يريده الله سبحانه وتعالى.