أبو بكر يراهن على صدق ما وعد به القرآن
أبو بكر الصديق بعد نزول الآيات في صدر سور الروم يندفع في أرجاء مكة وينادي على أهل مكة ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ١ - ٤] فقد روى الإمام الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لما نزلت هذه الآية ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: ١ - ٢] خرج أبو بكر بها إلى المشركين وذكر ونادى في أرجاء مكة بذلك، ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ٢ - ٣].
فقال الكفار: أفلا نراهن على ذلك، أي: نراهنك أنه لن يحصل الذي تقول به، فيقبل منهم أبو بكر الصديق هذه المراهنة، والرهان نوع من القمار، وأصل القمار من قمره في الشيء بمعنى: غلبه فيه، وهي بمعنى: الخطر والمخاطرة؛ لأن مال أحد الطرفين على خطر، فإنه إما أن يكسب، أو يُغلب فيضيع منه ماله، وكان هذا موجوداً في أول الإسلام، وبعد مبعث النبي ﷺ بقليل، ثم حرم بعد ذلك، وقد كان هذا الأمر موجوداً في الأعوام المكية، فلذلك راهنهم أبو بكر في أن الذي أخبر به النبي ﷺ هو صدق، وبعد أن ارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، قالوا لـ أبي بكر رضي الله عنه: كم تجعل البضع؟ فاتفقوا على ست سنوات، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه اجتهد حين وافقهم على الست السنوات، وإلا فالآية لم تحدد ذلك، وقد أخطأ رضي الله عنه فيما اجتهد به، فهو ليس معصوماً، إنما العصمة لكتاب رب العالمين وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما قول البشر فلا، والبضع في لغة العرب من ثلاثة إلى تسعة، فلما جاءت السنة السادسة لم يحصل الغلب الذي راهن عليه أبو بكر، فعاب المسلمون ذلك على أبي بكر الصديق وقالوا: كيف تقول ستة والقرآن لم يقل: ستة؟ وقال النبي ﷺ لـ أبي بكر: (أفلا احتطت لذلك؟) أي: بأن لا تنزل عن التسعة إلى الستة.
وكانوا قد جعلوا الرهان خمس جمال، وجعلوا الأجل إلى ثلاث سنوات، وبعد ذلك زادوا في الأجل لدون التسع السنوات، ثم حدث ما أخبر به القرآن العظيم على ما قدمنا قبل ذلك، وغلبت الروم الفرس ففرح المسلمون، وكان هذا في يوم بدر، ففي يوم انتصار المسلمين على المشركين انتصر أهل الكتاب على المجوس، وفرح المسلمون بنصر الله سبحانه.
وقد كان الفرس قوة عظمى في العدة والعتاد والروم كذلك، ولكن كان الفرس أقوى من الروم، وفي هذا الحين كان الفرس منتصرين على الروم نصراً عظيماً، وأخذوا منهم بلاداً من بلاد الروم، وكان الخوف ينتاب المسلمين، إذ عندما تتقابل قوتان عظيمتان إحداهما أقوى من الأخرى، وهذه الأقوى هي عدوة للمسلمين، فإن ذلك يجعل المسلمين يخافون أن ينتصر أعداءهم، كما أن المسلمين يفرحون بأن القوة الأخرى تنتصر عليهم، أما الفرح الأعظم فهو بنصر الله سبحانه الذي كان في يوم بدر، فحدث الانتصاران في هذا اليوم، ففرح المسلمون بنصر الله عز وجل لهم، وكذلك وقع ما اعتقده المسلمون من صدق كلام رب العالمين سبحانه وأن الروم تنتصر على الفرس، فعبر القرآن عن هذه الفرحة فقال: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الروم: ٤ - ٥]، ومعلوم أن النصر من أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ومن قضائه وقدره، فهو ينصر من يشاء