تفسير قوله تعالى: (بنصر الله ينصر من يشاء)
قال سبحانه: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الروم: ٥] ولم يقل في الآية: إنه ينصر المسلمين؛ لأن نصر المسلمين يحتاج إلى أخذ بأسباب النصر، ومتى وجدت الأسباب انتصر المسلمون، وإذا لم توجد الأسباب ينتصر الأقوى الذي يأخذ بالأسباب، ومن أهم أسباب النصر: العمل بشرع الله تعالى، فإذا كانت دولة المسلمين تعمل بشرع رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، فيأخذ فيها المظلوم حقه من ظالمه، ويحكم فيها بشرع الله تعالى، عند ذلك يجعل الله هذه الأمة مقدسة مطهرة، غالبة تغلب أعداءها، وإذا كانت أمة المسلمين يشيع فيها الظلم، ويهجر فيها كتاب الله وراء الظهور، فلن يكون لهم النصر، وإذا كان المسلمون في عهد النبي ﷺ وهم الذين يعملون بشرع الله رب العالمين، حين يعصون الله سبحانه ويعصون النبي ﷺ يستحقون الهزيمة كما حصل في يوم أحد وفي أول يوم حنين، فكيف بحالهم بعد ذلك؟ فالمؤمن الذي يطيع الله سبحانه تبارك وتعالى ويأخذ بالأسباب، يستحق عون الله سبحانه، أما الذي يترك ما أمر الله عز وجل به فلا يستحق أن يعينه الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك قيد انتصار المؤمنين وفتح الله سبحانه على المؤمنين بقوله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]، فإذا أعد المسلمون العدة لقتال أعداء الله سبحانه، وأخذوا بالأسباب، فإن الله سبحانه ينصرهم على عدوهم ويكون معهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨]، فإذا اتقى المسلمون ربهم سبحانه استحقوا أن يكون معهم، وإذا خالفوا ولم يتقوا الله لم يستحقوا معية الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأن الله مع المتقين، كما أن الله مع المحسنين أيضاً، فالمسلمون إذا أحسنوا واتقوا فالله معهم ينصرهم ويؤيدهم سبحانه، وإذا ظلموا وتركوا نصر دين الله سبحانه لم يستحقوا أن يكون الله سبحانه تبارك وتعالى معهم.
والمسلمون حين أخذوا بأسباب النصر في بدر نصرهم الله تعالى، قال سبحانه عن ذلك اليوم: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٤ - ٥] أي: يفرحون أن نصر الله المؤمنين، وأن حقق ما وعد، بأن نصر الروم على الفرس، ثم أخبر أن النصر بمشيئته سبحانه فقال: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الروم: ٥] أي: ينصر من يشاء من عباده، فينصر المؤمنين ويجعل لهم الانتصار والغلبة إذا أطاعوا الله سبحانه، ويسلط عليهم غيرهم لأنهم عصوه: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: ٥] أي: العزيز الذي لا يسأل عما يفعل سبحانه تبارك وتعالى، فلا يحتج المغلوب على ربه فيقول: يا رب! لم هزمتنا؟ لم جعلت الأعداء يتملكون أمرنا؟ بل قل: هو العزيز، فلا يسأل عما يفعل سبحانه، فختم الآية بأنه العزيز الرحيم سبحانه تبارك وتعالى، والعزيز أي: المنيع الجانب، القاهر الذي لا يغلب سبحانه تبارك وتعالى.
فإن هُزِم المسلمون ليس معناه أن الله سبحانه حاشاه تبارك وتعالى ليس بعزيز، فهو العزيز وله العزة سبحانه تبارك وتعالى ولرسوله وللمؤمنين، فينصر من يشاء وقد ينصر المسلمين، وقد ينصر عليهم غيرهم، ولكن هو العزيز سبحانه الذي لا يغلب أبداً وإن غلب الناس، فالله عز وجل عزيز قاهر غالب على أمره، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، كما أنه الرحيم بخلقه أجمعين سبحانه، ورحمته هي الرحمة العظيمة الدائمة في الدنيا وفي الآخرة، فرحمته بعباده المؤمنين أن يكون معهم ويؤيدهم وينزل شرعه الحكيم سبحانه تبارك وتعالى ليهديهم ويكون معهم سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا وفي الآخرة.
قال الله سبحانه: ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: ٤] أي: لله الأمر من قبل الغلب ومن بعد الغلب، فالله هو مدبر الأمر سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء بيده، وكل شيء يملكه الله عز وجل، وفي الآية أخبر بانفراده بالقدرة والتقدير، كما أخبر بانفراده بالتحكم في كل شيء سبحانه، وبين أن الأمر بيده يفعل ما يشاء.