تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب)
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم: ٢٠]، آية من آيات الله العظيمة لمن يتفكر فيها، فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨]، فالعلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى.
وكلما ورث العلم زادت الخشية في القلب من الله عز وجل، وصار صاحبه مستحقاً لرحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فهنا يذكر لنا هذه الآيات: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الروم: ٢٠]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ [الروم: ٢١]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: ٢٢]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [الروم: ٢٣]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الروم: ٢٤]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ﴾ [الروم: ٢٥]، آيات بعد آيات ليتدبر الإنسان في آيات الله سبحانه وتعالى، وآيات الله عز وجل عظيمة وكثيرة.
ومن ضمن آيات الله العظيمة، ومن ضمن هذه المعجزات التي نراها: ﴿أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الروم: ٢٠] أي: بدأ خلق الإنسان من تراب، ثم جعله نطفة ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٣]، ثم خلق هذه النطفة علقة، ثم خلقها مضغة، ثم جعل المضغة عظاماً وكسا العظام لحماً، ثم أنشأ الإنسان خلقاً آخر كما ذكر سبحانه في سورة المؤمنون، وفي سورة الحج التفصيل في ذلك.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الروم: ٢٠]، وخلق الإنسان ليس من تراب فقط، ولكن من تراب ومن ماء، أي: من طين، هذا أصل الإنسان، والعلماء الذين ينظرون في ذلك يقولون: إن كل عناصر الإنسان موجودة في هذا التراب الذي يمشي فوقه، فالله يخبرك أنه خلقك من هذا التراب الذي تسير عليه، هذا التراب الذي يحتقره الإنسان، والذي لو سقط على ثوب الإنسان بسرعة ينفض التراب ويغسل الثوب، فهو يستقذر ثوبه بهذا التراب، وهو مخلوق من هذا التراب، ويمشي فوق الأرض ويطأ على الأرض برجله وهو يحتقر هذا الذي يسير عليه، وهو أصلاً خلق منه، إن العلماء حللوا جسم الإنسان فوجدوا عناصر التراب الذي في الأرض أكثر من عناصر الإنسان، ووجدوا أن جسم الإنسان يحتوي على مجموعة من العناصر موجودة كلها في التراب، والتراب فيه عناصر أكثر منه.
فالتراب فيه حوالى مائة عنصر من العناصر، والإنسان فيه اثنان وعشرون عنصراً من هذه العناصر الموجودة في التراب، فحين يموت الإنسان يصير تراباً في الأرض من ضمن التراب الموجود في الأرض، وقالوا: إن في جسم الإنسان الأكسجين، وفيه الهيدروجين على شكل ماء، وخمسة وستون في المائة من جسم الإنسان ماء.
ويقول العلماء: في جسم الإنسان عناصر مثل الكربون، ومثل الهيدروجين والأكسجين، وتشكل في الإنسان ما يسمى بالمركبات العضوية من سكريات، ودهون، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات، وخمائر، كلها مواد موجودة من الكربون والأكسجين والهيدروجين الذي في الإنسان، وهي مواد جافة خلقها الله سبحانه وتعالى فيه.
يقول العلماء: هذه المواد تقسم ثلاثة أقسام: القسم الأول: مواد الكلور، والكبريت، والفسفور، والبوتاسيوم، والصوديوم تشكل ستين إلى ثمانين في المائة من المواد الجافة الموجودة داخل الإنسان.
القسم الثاني: مواد بنسبة وهي الحديد، والنحاس، واليود، والمغنسيوم، والمنجنيز، والكوبالت، والتوتيا، والملفيديم.
القسم الثالث: عناصر آخر أقل من ذلك بشكل فقير جداً في الإنسان وبشكل زهيد، والله عز وجل ركب كل شيء في الإنسان بحكمة، ولو زاد هذا الشيء لحصل للإنسان تسمم، فأقل هذه العناصر وجوداً في الإنسان الفلور، الألمنيوم، القورن، السلنيوم، الكنديون، الكروم.
وتركيب الإنسان كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: ١٢] أي: من خلاصة من هذا الطين، إذاً: ليس خلقه من كل التراب، ولكن من بعض عناصر التراب، ومع ذلك كرمه الله سبحانه وتعالى فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠].
ولذلك الشيطان احتقر آدم، وأبى أن يسجد له؛ لأنه مخلوق من تراب فقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢].
فلو أن الإنسان عومل هذه المعاملة على أنه عبارة عن منجم من المناجم التي فيها هذه العناصر، فإنه لا يساوي شيئاً، وقال العلماء: إن النبي ﷺ أخبر عن الإنسان فقال: (إن الله خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض)، إذاً: آدم قبضة مقبوضة من جميع الأرض، فجاء منها آدم، وجاء من آدم أولاده على حسب هذه الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب.
والأرض فيها أرض بيضاء، وأرض حمراء، وأرض سوداء، وأرض طيبة، وأرض خبيثة، وأرض سهلة، وأرض جبال صعبة، والإنسان جاءت خلقته على ما هو موجود في الأرض.
وقالوا: إنه بتحليل جسم الإنسان عرفنا أنه تكون من مركبات، من ضمنها هذه المعادن التي في الإنسان، مثل: الفسفور والكبريت والمغنسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم وغيرها، وقال العلماء: لو أخذت المعادن التي في جسم الإنسان وقمت بتركيبها لخرجت بالمكونات التالية: علبة طباشير، وعلبة كبريت، ومسمار صغير، وحفنة من الملح، ومواد أخرى لا قيمة لها، هذا هو أصل خلق الإنسان! ولذلك النبي ﷺ نبه أصحابه إلى ذلك، وبصق في يده الشريفة ﷺ وأخبر أن الإنسان خلق من مثل هذا البصاق، ثم يتعالى على الله سبحانه وتعالى، ويأبى أن يعبد الله سبحانه وتعالى!! يقول العلماء: إن الثوب الذي يلبسه الإنسان أغلى من العناصر الموجودة فيه والتي تكون منها، والساعة التي يلبسها في يده أغلى من العناصر الموجودة فيه، ولكن الذي كرمه وجعل له القدر والقيمة هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠]، إذاً: التكريم في أصله لا يستحقه، ولكن الله بفضله وبكرمه سبحانه رفعه، وكرمه، وأسجد له الملائكة، وجعل في الإنسان ما يعود إلى ربه من فضل الله سبحانه، وخلق الإنسان من طين، وخلق الشيطان من نار، ولو خلق الإنسان من نار لنفر كالشيطان، فآدم لما أخطأ رجع إلى أصله، رجع إلى الطين الذي فيه التؤدة، والذي فيه احتقار النفس، والذي فيه التواضع والركون إلى ربه سبحانه وتعالى.
والشيطان لما تغيظ رجع إلى أصله، إلى النار، وإلى النفور والرفض فقال لله سبحانه وتعالى: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢]، ﴿قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: ٦١]، رجع الشيطان إلى أصله، وقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢]، وآدم رجع إلى أصله، وهو الطين لما عصى الله سبحانه وتعالى، فقال: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣]، فرجع إلى أصله الطين، حيث احتقر نفسه فتواضع لله فاستحق أن يغفر الله عز وجل له، وأن يعيده إلى الجنة مرة ثانية، فكان أن خلق الله الإنسان من طين فضلاً ومنة منه سبحانه على العبد، فيستشعر الإنسان في نفسه بأنه عبد لله وأنه حقير، وأن الله الخالق الجليل الكبير العظيم الذي يستحق العبادة، فيعبد ربه ويتوب إليه سبحانه وتعالى.
وهنا في الآية يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم: ٢٠]، وفي الآية الأخرى يقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: ٣٦]، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.