تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم)
يذكر الله سبحانه آية أخرى من آياته الدالة على عظمته فيقول سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: ٢٢].
ذكر الله سبحانه آيات عظيمة في هذه الآية، فذكر خلق السموات وما فيها من مجرات عظيمة، والإنسان عندما يتأمل في خلق الله سبحانه ويرى هذه الأرض الدائرة في المجموعة الشمسية، ويرى اتساع الكواكب التي حول هذه الشمس؛ يدرك صغر حجمها بجوار المجرة التي نحن فيها، إذ إنها تشبه ذرة في فلاة عظيمة، فهذه المجموعة الشمسية التي تتكون من الأرض والشمس والقمر وما بجوارها من كواكب تدور حول الشمس وما الأرض إلا شيء يسير بجوار هذه المجرة التي فيها مليارات الكواكب والشموس والأقمار، بل إن هذه المجرة بجوار باقي المجرات تشكل محيطاً بسيطاً، وقد عجز العلماء أن يحصوا عدد المجرات التي في الكون، فإذا كانت مجرة واحدة لم يستطيعوا أن يستوعبوا كم من الكواكب والنجوم فيها، فكم مجرة مثل هذه المجرة التي نحن عليها؟! -وتسمى المجرة التي نعيش فيها: بمجرة درب التبانة- ولو سألتهم عن عدد هذه المجرات؟ لأجابوك: مليارات المجرات، فيا ترى كم هو كبر هذا الكون الذي نحن فيه؟ فإذا نظرنا إلى ذلك وتفكرنا فيه عرفنا أن هذا الكون كبير جداً، فكيف يكون الذي خلق هذا الكون؟! فسبحان الله العظيم الكبير الجليل، ولذا كانت قاعدة التعرف على الله سبحانه تبارك وتعالى: هي النظر في هذا الكون الفسيح.
قوله تعالى: ﴿خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الروم: ٢٢] أي: خلق السموات وخلق الأرض.
وقوله تعالى: ﴿وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: ٢٢] الآية تدل على بديع صنع الرحمن فكم على الأرض من أجناس البشر؟! وكم نوع من أنواع البشر؟! وكم لسان يتكلم هؤلاء البشر؟! أنواع كثيرة جداً وألسنة كثيرة، الكل يدعون الله ويقولون: يا ألله! والله يسمع هذا، ويسمع هذا، ويسمع هذا، ويعلم كل هذه الألسنة كيف تناديه سبحانه، ويعلم ما يقولون، وما يفعلون، فالله يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا عرفنا إنساناً يعرف لغةً وإنساناً آخر يعرف لغتين، أو يعرف ثلاث لغات، أو يعرف ست لغات، فسنعظم الثاني دون الأول، ونثني على سعة علمه؛ لأنه يتكلم ست لغات، ولله عز وجل المثل الأعلى، فنستدل بالمخلوق على عظيم قدر الخالق العظيم، قال سبحانه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١]، فهو الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، قال جل في علاه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]، سبحانه تبارك وتعالى.
وفي قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: ٢٢]، قراءتان: قراءة حفص عن عاصم: (إن في ذلك لآيات للعالِمين) أي: العلماء.
وقراءة باقي القراء: (إن في ذلك لآيات للعالَمين) أي: لكل العالم، ولكل خلق الله عز وجل، وعلى القراءة الأولى فإن المنتفع بهذه الآيات هم العلماء، ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨].
يذكر الشيخ وحيد الدين خان في كتابه: (الإسلام يتحدى) قصة عجيبة من القصص التي يرويها عن رجل آخر من علماء الفيزياء اسمه: عناية الله المشرقي، وهو رجل هندي، كان من علماء الفيزياء الأفذاذ، الذين استحقوا أن يأخذوا جائزة نوبل في يوم من الأيام ورفضها ولم يقبلها، فقالوا له: ترجم كتبك التي باللغة الأردية إلى اللغة الإنجليزية، حتى تأخذ جائزة نوبل، فقال لهم: إما أن تقبلوها باللغة الأردية، وإلا فلا؛ لأنكم إذا لم تعترفوا باللغة الأردية لا أريد جائزتكم.
وذكر هذا الرجل قصة من القصص فيقول: في يوم من الأيام في عام ١٩٠٩م -أي: قبل مائة سنة خلت- كان في انجلترا وهو يمشي في الطريق قابل أستاذه في الفيزياء البروفسور جيمس، يقول: وجدته في الطريق يمشي وبرد الشتاء الشديد فوق رأسه، ومظلته تحت إبطه، ويمشي وهو غارق في التفكير، فوصل إليه وسلم عليه ولم يكن منتبهاً له، فقال له: ماذا تريد؟ من غير أن يرد عليه التحية، فقال له: أريد شيئين: إلى أين ستذهب؟ قال: سأذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: أنا أعجب منك، السماء تمطر على رأسك، والمظلة تحت إبطك! فانتبه الرجل فرفع المظلة فوق رأسه، وقال له: هل تريد شيئاً آخر؟! فقال له: أنت عالم من العلماء فلماذا تذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: حسناً، تعال نشرب الشاي في بيتي في العصر، وذهب إليه في بيته في وقت العصر، ووجده منتظراً له فجلس، قال عناية الله: فقبل أن أبدأ في الكلام أعطاني محاضرة طويلة في علم الفلك، وفي هذا الخلق العظيم الذي يدل على وجود الخالق.
يقول الرجل: هو يتكلم عن خلق هذا الكون العظيم، وبدأ يرتعش وشعره يقف، ودموعه تنهمر، وهو يقول: مدة خمسين عاماً وأنا أدرس وصلت لهذا الشيء، إن هذا الكون له خالق عظيم، أفتتعجب لماذا أذهب إلى الكنيسة؟! أذهب الكنيسة لكي أعبد الخالق الذي خلق هذا الكون، وعناية الله المشرقي رجل مسلم، فقال له بعدما أخذ منه هذه المحاضرة الطويلة: لقد ذكرتني بآية عندنا في القرآن إذا أحببت قلت لك هذه الآية، فقال له: تفضل، فذكر له الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: ٢٧ - ٢٨]، فوقف عندما سمع هذه الآية، وقال: تفسير هذه الآية التي تقولها، ماذا تقول؟! ما هو هذا الشيء الذي تقوله؟! ومن قال هذا الكلام؟! إن محمداً يستحيل أن يعرف هذا الكلام، لقد عرفت هذا الكلام بعد دراسة دامت خمسين عاماً، فأين درس محمد ﷺ خمسين عاماً؟! تقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) عندكم هذه الآية في القرآن! قال: اكتب عني أن هذا القرآن وحي من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! (إنما يخشى الله من عباده العلماء) هذه الكلمة التي تمر على أذهاننا حين نسمعها مروراً عادياً، ونفهم أن العلماء يخشون الله، لكن الرجل بعد دراسته خمسين عاماً لعلم الفيزياء وعلم الفلك ينظر في اختلاف ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى من آيات في الكون، فهذه جبال حمراء، وهذه سوداء، وهذه بيضاء، الأفلاك الموجودة في السماء فيها كذا وفيها كذا، وأخذ يتدبر فيها ويخشع ويخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، والذي هو متاح أمامه بحسب دينه هو النصرانية، فكان يتوجه إلى الكنيسة ليصلي، وليعبد الله الذي خلق هذا الكون، والذي يخاف منه، فلما يسمع هذه الآية يقول: إن هذا كلام حق من عند رب العالمين، إن هذا القرآن ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام جاء من السماء من عند رب العالمين سبحانه.
والله يأمرنا أن نتدبر القرآن ويعيب علينا عدم التدبر، قال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، فالقرآن يتوافق بعضه مع بعض في العظمة والإتقان، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١].


الصفحة التالية
Icon