تفسير قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار)
قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [الروم: ٢٣] من آيات الله سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان وجعله يحتاج إلى النوم، فهو من ضروريات الإنسان، ولو أنه ذهب عنه النوم، لأصيب بالجنون أو لمات من ذلك فالنوم آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف الناس له تفسيراً إلا ما يرونه أمامهم، لكن حقيقة هذا النوم هو كما ذكرنا قبل ذلك أن الله عز وجل يقبض روح الإنسان خلال نومه، والنوم كما يعبر عنه العلماء ليس حالة من حالات الخمول، وإنما هو ضرورة من ضروريات حياة الإنسان يحتمها عليه الأمر الحيوي الذي في الجسم حتى يستريح، وقالوا: إذا حللنا ما يحدث للإنسان أثناء نومه بدراسة التغيرات التي تحدث فيأتون برسام المخ وبأناس نائمين ثم يرسمون مخ الإنسان النائم يقولون: إنه يمر بخمس مراحل في نومه: المرحلة الأولى والثانية: البدء في النوم والدخول فيه.
الثالثة والرابعة: السبات وهو النوم العميق.
الخامسة: مرحلة الأحلام التي يراها الإنسان أثناء منامه، فنوم الإنسان عجيب جداً يسجل رسام المخ أول ما ينام الإنسان أنه يهدأ مخه ثم يبدأ يسجل رسام المخ موجات المخ التي يرسلها وهي تضعف شيئاً فشيئاً حتى يصير الإنسان في سبات عميق، فهو يرسل موجات من سبع إلى اثني عشر موجة في الثانية الواحدة ثم تقل حتى تأتي مرحلة السكون التي يكون عليها الإنسان، ويدخل الإنسان في مرحلة السبات حتى يصبح في مرحلة لا يعرف أن يحسب فيها الزمن ولو نام عشرين ساعة أو ألف سنة لا يشعر، ولذلك نام أهل الكهف في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، فلما استيقظوا قالوا: كم لبثتم؟ فلم يشعروا بهذه السنوات الطوال، بل قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وقد كانوا في نوم الله أعلم بحالهم هل قبض أرواحهم في هذا النوم على أنه نوم وليس موتاً يأخذهم وتتحلل فيه أجسادهم، وكذلك ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] وهو عزير، ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، وهو نفس الذي قاله أهل الكهف في ثلاثمائة عام ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩]، وجعل له الله عز وجل آيات في نفسه وفي حماره وفي طعامه، إنسان يركب على حمار، ومعه الطعام في مزوده، ثم يتعجب لقرية أبادها الله وأهلكها، وهذه نظرة البشرية فأنت إذا رأيت بلداً خربه المستعمرون المحتلون الكفرة تقول: هؤلاء دمروا هذه البلاد فمتى تتعمر هذه البلاد؟ ومثلها نظرة من يقول: هؤلاء دمروا العراق يا ترى كم يحتاج من السنين حتى يعود إلى ما كان عليه؟! هكذا قال هذا الرجل: (أنى يحيي) أي: كم من الوقت سيمضي حتى ترجع هذه البلدة مرة ثانية؟! كأنه استبعد ذلك، فجعل الله له آية في نفسه (فأماته الله مائة عام ثم بعثه)، (قال كم لبثت) أي: كم من الوقت نمت؟ قال: (لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه)، والعادة في الطعام أن يظل يومين أو ثلاثة أو أكثر ثم يعفن وينتهي، لكن الله سبحانه وتعالى أراه آية عجيبة، فالطعام الذي جرت العادة فيه أن يتعفن بعد اليوم الثاني ما زال على ما هو عليه بعد مائة سنة! ﴿وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: ٢٥٩]، والحمار الذي يمكن أن يعيش أكثر من الطعام تحلل وصار عظاماً، ولك آية في نفسك أنك لم تتحلل بعد مائة سنة فما زلت على حالتك الأولى، فهذه آيات الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإنه جعل النوم مرحلة يحتاج إليها الإنسان كل يوم، كذلك إذا كان في نوم عميق لم يعرف الزمن ولم يستطع أن يحدد كم وقتاً نام، وهذه آية من الآيات.
وهناك تجارب أجراها أحد الأساتذة البريطانيين البروفسور: أرسر أديسون على مخ الإنسان وعلى نوم الإنسان، وهي دراسة طويلة توصل فيها في النهاية إلى أن عملية النوم هي خروج شيء من الإنسان سماه الله النفس وهذا الإنسان لا يعرف ما هذا الذي يخرج، ولكن الأبحاث أدت إلى ذلك، والله سبحانه وتعالى قد قال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢]، فنفس الإنسان يقبضها الله على هيئة معينة في وقت نومه، ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: ٤٢] فالإنسان محتاج للنوم وهو يذكره بالموت وأنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، وقد جعل الله النوم آية ليرينا ضعفنا وحاجتنا إلى ذلك، فلا أحد يقول: أنا مستغن عن النوم، أنا لا أحتاج للنوم، ولو قال ذلك أحد وكابر فإنه لو قدر على ترك النوم يوماً أو يومين أو ثلاثة فإنه يعجز بعد ذلك، ولا يستطيع على ترك النوم، فالإنسان ضعيف والله هو الحي الذي لا يموت، فهو الحي القيوم سبحانه وتعالى، لا تأخذه سنة ولا نوم، والسنة النعاس اليسير، والله سبحانه حاشاه أن يعتريه نعاس ولو للحظة، ولا نوم فهذا مستحيل على الله سبحانه وتعالى، وقد قال في آية الكرسي: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، فهو حي لا يموت قيوم لا ينام سبحانه وتعالى، فهو قائم على كل شيء، مدبر لكل شيء، ولو قلنا: الله سبحانه وتعالى، وحاشا له تأخذه سنة أو نوم لكان الكون كله سوف يتدمر متى حدث له ذلك؛ ولذلك يخبرنا الله سبحانه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] أي: لو كان هناك آلهة في هذا الكون غير الله سبحانه لفسدت السموات والأرض، لأنه سيحدث بينهم تنازع فيقول أحدهم: هذا ملكي، ويقول الآخر: هذا ملكي، مثلما يحدث بين البشر حين يتنازعون في شيء من حطام الدنيا، فيفسد هذا الشيء، ولكن السموات والأرض قد استقرت على حالها الذي خلقها الله سبحانه وتعالى عليه ولم تفسد السموات ولا الأرض؛ فدلنا على أن الخالق واحد سبحانه لا ينازعه أحد أبداً في ملكه سبحانه وتعالى.
ولما ذكر السنة والنوم ذكر السموات والأرض حتى تذهب بعقلك فتنظر إلى السموات والأرض لماذا لم تضطرب؟ لأن الذي خلقها حافظ لها سبحانه وتعالى، يدبر أمرها، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتدمرت السموات والأرض وفي هذا آيات للذين يعلمون أن الذي خلقها هو الحي القيوم الذي لا ينام سبحانه.
وقد قال الله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم: ٢٢] وعقب بعدها: (منامكم) فالذي خلق السموات والأرض لا ينام سبحانه وتعالى، ولكن أنتم تنامون وتحتاجون إلى النوم وأنتم فقراء إلى الله قال: ﴿مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الروم: ٢٣] فيعتريكم النوم أصلاً بالليل ولكن قد ينام بعضكم بالنهار، وابتغاؤكم من فضله بالليل وبالنهار وإن كان الغالب أن الليل للنوم والنهار للمعاش والتكسب، وتبتغون: تطلبون من فضله سبحانه، فأنتم فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [النحل: ٦٥] الإنسان وهو نائم يغلق عينيه فلا يرى شيئاً، والذي يوقظ الإنسان وهو على هذه الحال سمعه.
لذلك عقب الله بهذه الكلمة العظيمة: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [يونس: ٦٧] ومعنى يسمعون أي: أنهم يسمعون القرآن فيعقلونه ويفهمونه فينتفعون بهذا السمع.