تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: ٢٧] قوله: (وهو) هذه الكلمة في القرآن كله فيها قراءتان، فهي تقرأ: (وهْو) وهي قراءة قالون عن نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو والكسائي، وباقي القراء يقرءونها (وهُو).
قوله: ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: الله سبحانه بدأ خلقكم ليس غيره، فهو الذي فطركم وأنشأكم أول مرة، ولم يكن لكم مثال قبل ذلك، ليفعل الله ذلك على هذا المثال السابق حاشا له سبحانه، وإنما هو يبدع وينشئ الخلق الذي لم يكن لهم مثال سابق قبل ذلك سبحانه، فهو فطركم وخلقكم وصوركم وبرأكم وأنشأكم وابتدع خلقكم سبحانه.
((وَهُوَ الَّذِي)) بدأ الخلق من ساعة ما خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتناسل آدم وتناسلت ذريته، فبدأ خلق الإنسان من طين، وكل إنسان خلقه من نطفة في قرار مكين، ثم جعل هذه النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظاماً، فكسا العظام لحماً، بدأ طوراً بعد طور حتى صار هذا الإنسان العاقل.
كذلك النبات ابتدأه الله بذرة صغيرة ثم تنبت ثم تصير فيها سنبلة ويصير فيها حبوب.
فالإنسان بعدما أحياه الله أماته سبحانه، ثم يعيده مرة ثانية، مثل ما فعل في هذه البذرة التي بدأها الله سبحانه فصارت نباتاً، وصارت في النهاية حبة، وهذه الحبة لو وضعتها في الأرض فإن الله سيعيدها مرة ثانية وتصير سنبلة، وكذلك النواة تصير هذه النخلة وتأخذ منها نواة مرة ثانية.
خلق هذا الإنسان وبدأه الله سبحانه وتعالى على ذلك، ثم يعيده بأن يأمر الأرض أن تجمع ما فيها، مهما تفرق الإنسان في أي مكان كان، فالله بأمره سبحانه كن فيكون ويجمعه، فقد علمنا قصة الرجل الذي أوصى أولاده بأنه إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم ينظروا في يوم شديد ريحه فيذروه في البر وفي البحر، فيا ترى أيهرب هذا الإنسان بذلك؟ فهو أعمل عقله في حيلة يمكن أن يهرب من الله، فأمرهم أنه إذا مات أن يحرقوه حتى يصير تراباً، وقال عند موته: (والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).
هذا المسكين أراد أن يهرب من الله، فإذا بالله عز وجل يأمر البحر: أن اجمع ما فيك منه، هل يقدر البحر أن يعصي الله سبحانه؟! فاجتمع ما في البحر من جسد هذا الإنسان ومن تراب هذا الإنسان، وأمر البر: أن اجمع ما فيك من هذا الإنسان، فيجتمع، فيقول له: كن فيكون، فرجع الرجل مرة ثانية كما كان، فسأله الله سبحانه: (لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر الله له سبحانه وتعالى).
فهل هذا أعجز الله سبحانه بهذا الذي فكر فيه؟ مهما تقطع الإنسان وتمزق إرباً، ومهما أكلته الطير وطارت به في أماكن وماتت هذه الطيور في أرجاء متفرقة؛ فإنه لا يهرب من رب العالمين.
ثم قال: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] أي: إعادة الإنسان أمر هين ويسير على الله سبحانه وتعالى، وهذا كأنه يضرب لكم المثل من أنفسكم، فالذي يصنع منكم شيئاً فإنه يستطيع أن يصنعها مرة ثانية، أليس هذا أسهل عليه؟ ولله عز وجل المثل الأعلى، وليس عند الله شيء اسمه سهل والآخر أسهل منه، كل شيء على الله عز وجل يسير، وإنما يخاطبكم بما تفهمون في أموركم وفي عاداتكم: أن الذي يصنع شيئاً فإنه أسهل عليه أن يصنعه مرة ثانية، والله عز وجل كلٌ عليه هين، ليس عنده أسهل وأسهل، بل الكل على الله يسير.
فقوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) أي: هين يسير على الله أن يعيدكم مرة ثانية.
قوله: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [الروم: ٢٧] أي: إذا ضرب مثلاً مما عندكم فيما بينكم فليس معناه أنه مثلكم، لا، فالله عز وجل لا مثيل له سبحانه وتعالى؛ لأن له الأوصاف العالية العظيمة، ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل: ٧٤] فالله يضرب لكم الأمثال ليقرب ذلك إلى عقولكم، ولكن لا تضرب أنت لله عز وجل الأمثال، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٤].
فقال هنا: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الروم: ٢٧] أي: له الوصف العظيم والأعلى في كل مكان سبحانه وتعالى، فهو الأعلى والأعظم سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى)) قالوا من معانيها: له أعظم وصف وهو لا إله إلا الله، يعني: لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعالى.
قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: ٢٧] أي: الغالب، وهذا مناسب لما قبله، يعني: إذا قال الله عز وجل: كن، فلا ممانع لقضاء الله وقدره؛ لأن الله قاهر وغالب وعزيز لا يغالب سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في خلقه، الحكيم في إنزاله كتبه، الحكيم في صبره على عباده، الحكيم في تشريعه سبحانه، وكل شيء بحكمة بالغة من الله سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon