تفسير قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)
قال الله تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الروم: ٢٩] قوله: ((بَلِ)) بل للإضراب يعني: اضرب عن هذا فمهما أتيتهم بحجج الله سبحانه فهم لا يريدون أن يفهموا أصلاً، ((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ)) فإذا كان الإنسان صاحب هوى وجلست معه لتقنعه بالشيء الواضح، فمهما حاولت أن توضح له فلن يقتنع إلا بالذي في دماغه، فها هم المشركون لما دعاهم النبي ﷺ إلى الله سبحانه كانت عقولهم في شركهم وأوثانهم، فقالوا: أنت تريد أن تأخذ منا الرئاسة، وتريد أن تأخذ منا المكانة، فلن نقبل منك الذي تقوله، ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ﴾ [الإسراء: ٩٠ - ٩٣] كل هذا: ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه﴾ [الإسراء: ٩٣].
أي: لن نؤمن بعد هذا كله حتى تأتينا بكتاب من السماء مختوم من رب العزة سبحانه ونقرؤه ونجد فيه رسوله! ويقول له بعضهم: وحتى لو فعلت ذلك ما أظن أنني أؤمن بك! يعني: صاحب الهوى لا يؤمن ولا يستجيب، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم، فهم أصحاب هوى مهما أقنعتهم لا يقتنعون في الظاهر، وإنما في الباطن، هم يعرفون الحق فيعاندون ويستكبرون، لذلك قال الله عز وجل لنبيه ﷺ في سورة الأنعام: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] أي: لا تحزن على ذلك، ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] يعني: هم لا يعتقدون أنك كذاب، كيف وهم يلقبونك بالصادق الأمين، بل هؤلاء يجحدون، أي: يكتمون الحق مع تيقنهم بأنه حق، فهؤلاء المشركون لا يكذبون النبي ﷺ ولا يعتقدون أنه كاذب، بل يعتقدون أنه صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن كما قال أبو جهل: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا الحجيج فأطعمنا، وسقوا الحجيج فسقينا، وكلما عملوا من الخيرات عملنا، ثم زعموا أن فيهم نبياً فأنى لنا بنبي؟! إذاً: تكذيبهم للنبي ﷺ بسبب الحسد، فهم يعترضون على أمر الله سبحانه أن اختار النبي ﷺ دون غيره.
بل يصرحون: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] أي: لماذا نزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة الثقفي من ثقيف من الطائف؟ لماذا نزل عليك أنت هذا القرآن؟ فالحسد للنبي صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعلهم يعترضون على نبوته، قال الله عز وجل له ولهؤلاء الناس: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤] وقوله هنا: ((النَّاسَ)) المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سبحانه في سورة الروم: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الروم: ٢٩] أي: ليس عندهم آثار من علم، وليس عندهم دليل من رب العالمين يسوقهم ويقودهم إلى ما يزعمونه من كلام باطل.
قال: ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [الروم: ٢٩] أي: مستحيل أن الله عز وجل يهدي إنساناً استحق هذه الضلالة، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ [النحل: ٣٧] أي: لا يهدى من يضله الله سبحانه وتعالى، والذي يضله الله سبحانه هو من علم الله سبحانه أنه لا يستحق إلا النار، فيختم على قلبه ويطبع على قلبه فلا يستجيب ولا يفهم ولا يعقل.
فقوله: ((فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)) أي: لا أحد يهدي من أراد الله به الضلالة؛ لعلم الله عز وجل أن هذا يستحق ذلك.
قوله: ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) يعني: في ظلمهم واتباعهم أهواءهم ومحاربتهم النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لهم ناصر ينصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالله ينصر دينه وقت ما يشاء سبحانه، ويخذل الشرك والمشركين وما لهم من ناصرين.