عبث الشياطين بالمشركين في تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله
جاء في صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال)، يعني: ما أعطيت لعبادي من رزق ومن مال فالأصل أنه حلال، (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يعني: مائلين عن الباطل مستقيمين على الحق، وفي قلوبهم ما يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى عبادته سبحانه وتعالى، ولكن كما قال: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: إذا بالشياطين تحول العباد عن هذا الدين وتفتنهم عنه، وفي الرواية الأخرى: (فاختالتهم عن دينهم).
قال في الحديث: (وحرمت عليهم ما أحللت لهم) أي: أن الله أحل للعباد أرزاقهم فإذا بالشياطين توهم الناس أن هذا حلال وأن هذا حرام، فيقسمون أرزاقهم التي جعلها الله عز وجل لهم فيقولون: هذا لله وهذا لشركاء الله عز وجل، فما كان لله فهو يصل إلى شركائه، وما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، فجاءوا بأشياء يخترعونها ويبتدعونها بعقولهم، ويقول هؤلاء المشركون إذا حصدوا الثمار: الجزء هذا لله، والجزء هذا للشركاء، فإذا اختلط ما لله عز وجل بما للشركاء يقولون: نجعله كله للشركاء وربنا غني عن ذلك.
فيقال رداً عليهم: إذا علمتم أن الله غني عن ذلك فلم تعبدون هؤلاء الشركاء وأنتم تعرفون أنهم فقراء وليسوا بأغنياء عن ذلك؟ فتعطونهم ما لله وتقولون: إن الشركاء محتاجون لهذا النصيب، فما كان لشركائكم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائكم ساء ما تحكمون.
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٣٨ - ١٣٩] وقد قسم لهم هذه القسمة الشياطين، فضحكت عليهم بها وخدعتهم فقسموا هذه القسمة، وقالوا لهم: هذه أنعام وحرث حجر، أي: محجورة فلا أحد يأخذها إلا من نريد! ﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ [الأنعام: ١٣٨] أي: ممنوع أن يركب عليها أحد؛ مكافئة لهذه الأنعام؛ لأنها أنجبت وأنجب خلفها، فيمنع الناس من ركوبها وذبحها مع أن الله قد خلقها رزقاً لعباده، وأباح لك أن تأكلها أو تعطيها غيرك يركبها أو تركبها أنت، أو تعطيها غيرك صدقة يأكلها، ولا تترك سائبة تمشي بين الناس، ولا أحد يتعرض لها، حتى تكون هرمة وتموت من غير أن ينتفع بها أحد.
فيقال لهم: من الذي أمركم بتحريم أكل هذه الأنعام وتركها لنفسها هكذا؟ فالله لم يأمركم بذلك، ولكن العقول الخائبة والأديان الباطلة تعمل ذلك، فهؤلاء يعبدون غير الله والشياطين تستهويهم وتجتالهم عن دينهم، وهم أطاعوا الشياطين في معصية الله عز وجل، قال سبحانه: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] ولكن الشياطين هم الذين يوحون إلى أوليائهم ذلك فيجادلون به.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]، يقال بحيرة: أي: بحرت بطنها وولدت أنثى وبعدها ولدت أنثى أيضاً، فيكافئونها بأن لا يركبها أحد ولا يستخدمها، وتترك هكذا.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] يقول أحدهم: لله علي نذر، أو ينذر لغير الله عز وجل إذا شفى الله مريضي أو نحوه فسأترك الجمل سائباً لا يركبه ولا يأكله أحد! فلا هو انتفع به ولا غيره انتفع به، وقد جعله الله عز وجل حلالاً يؤكل فإذا بهم يحرمون أكله.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ﴾ [المائدة: ١٠٣] الوصيلة: هي التي وصلت بطناً ببطن، يعني: خلفت مرة وأخرى وثالثة، فتستحق أن لا تركب بعد ذلك ولا تؤكل.
﴿وَلا حَامٍ﴾ [المائدة: ١٠٣]، وهو الذكر إذا لقح ولد ولده، يعني: أن الجمل إذا خلف جملاً، فنتج منه جمل آخر فيبقى عنده حفيده ولا أحد يتعرض لهذا الجمل الجد.


الصفحة التالية
Icon