تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم وهو العزيز الحكيم)
يقول سبحانه في عكس اللاهين المفرطين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ [لقمان: ٨]، وكأن الله يسلي المؤمنين ويصبرهم على هذا الدين، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر)، إذ أن الفتن في كل مكان، وهو متمسك بدينه، ويكاد الشيطان لا يعرف له طريقاً يدخل إليه، فيسلط عليه هذا، ويسلط عليه هذا، وهو متمسك بدينه، وكأنه يحترق في ذلك كالذي يقبض على جمر فيحرق يديه، ولكن تمسكه بدين الله يواسيه في ذلك نظره إلى المستقبل والمآل.
فهنا ربنا سبحانه وتعالى يخبر عن هؤلاء المؤمنين أن لهم جنات النعيم، فأنتم أيها المؤمنون لكم عند الله النعيم المقيم، والموسيقى التي تحرم نفسك منها في الدنيا ستسمع أفضل منها في الجنة من أصوات الملائكة وأصوات الحور العين، وأشياء لم تسمع قبل ذلك مثلها أبداً، وما عليك إلا أن تصبر حتى تتعدى هذه الدنيا، والدنيا حقيرة قليلة يسيرة، تجد الإنسان يعيش فيها ستين أو سبعين سنة، ويمر عليه يوم وفاته شريط الذكريات وشريط العمر كأنه يوم أو بعض يوم، وتقعد مع إنسان وهو في آخر حياته، فيحكي لك: كنا نقعد كذا ونعمل كذا، فيفكر بالماضي وكأنه شريط يمر في رأسه، فاحذر من هذه الدنيا، وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، وحاسب نفسك في هذه الدنيا؛ لأن أمامك الجنة، فأنت مثل إنسان يسير في صحراء وأمامه آبار من المياه فيها كدورة، فصبر نفسه وواساها وأملها بنبع صافٍ يقدم عليه، ومنع نفسه عن الشرب من تلك المياه خوفاً من أن تسممه أو تؤذيه، فلا زال يصبر نفسه شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى بر الأمان، وإلى مكان النبع الصافي.
كذلك الإنسان المؤمن يصبر نفسه، كما قال الله عز وجل: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠]، وكما أمر الله نبيه ﷺ فقال له: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨]، وهنا قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ [لقمان: ٨]، أي: الجنة التي يتنعمون فيها بنعم الله سبحانه، وبفضله عليهم.
قال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [لقمان: ٩] وهنا يوجهك الله إلى مقارنة بين الدنيا والآخرة، وأنه مهما كان في الدنيا من لهو ولعب فإنه لن يدوم، فمصائب الدنيا وابتلاءاتها كثيرة، أما يوم القيامة في جنة الخلد فلا بلاء ولا خوف ولا حزن ولا تعب ولا نصب ولا مرض، ولا شيء مما يكدر على الإنسان أيامه ولياليه.
يقول الله سبحانه: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [لقمان: ٩] أي: لن يخرجوا من الجنة أبداً، ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ [لقمان: ٩]، أي: هذا وعد، وليس هو وعد المخلوق، بل وعد الخالق سبحانه وتعالى، القادر على الوفاء.
يقول سبحانه: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ [لقمان: ٩]، أي: الغالب المنيع الجانب سبحانه تبارك وتعالى، ﴿الْحَكِيمُ﴾ [لقمان: ٩] أي: الذي له الحكمة في أن حرم هذه الأشياء وإن اشتهتها نفوس الناس، فالشخص يشتهي أن يسمع الموسيقى، أو يسمع الغناء، فيأتي حكم الله بأن هذا ممنوع في الدنيا وهو لك في الجنة، والشخص في الدنيا يريد أن يلبس الحرير، أو يلبس الذهب، فيقال له: ممنوع عليك في الدنيا، وفي الجنة ستلبسها، ويحذره بقوله: لو لبستها في الدنيا لضاعت عليك في الجنة، ولو استمعت لهذا الشيء في الدنيا لم تستمع له في الجنة، فيقارن الإنسان المؤمن بين هذه الدنيا الفانية وبين الجنة التي فيها النعيم المقيم، فيختار الباقية على الفانية.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والبعد عن محارمه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon