تفسير قوله تعالى: (خلق السموات بغير عمد ترونها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان: ١٠ - ١١].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة، وعن آياته في هذا الكون، التي يجب على كل إنسان عاقل أن ينظر فيها، وأن يتأملها؛ ليعرف قدرة الله سبحانه وتعالى، وليستيقن من عظمته سبحانه، وتقديره لكل شيء.
قال الله: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [لقمان: ١٠] آية من آيات الله سبحانه، أن رفع هذه الكواكب، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها من أفلاك، ورفع المجرات في هذا الفضاء العظيم بغير عمد ترونها.
فليس هناك عمود تراه بين السماء والأرض يرفع الله عليه السماء، أو يضع عليه الأرض، ولكن كل شيء في فلكه يدور بأمر الله وقضائه، وقدره، وبحكمته، وحكمه، وإتقانه، وبديع صنعته سبحانه وتعالى.
وكلمة (تَرَوْنَهَا) إما أن المحل فيها على الكسر فتكون وصفاً لما قبلها، فيكون قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي: بغير أعمدة تَرَوْنَهَا، فيكون المعنى على ذلك، هناك أعمدة غير مرئية، لا ترونها أنتم.
وهذا ما يسميه علماء الفلك: قوة التجاذب بين الكواكب، وبين المجرات، وبين الشمس والقمر، فكأنه يخرج من مركز الشمس مع القمر ومع المجموعة الشمسية التي حولها أعمدة من التجاذب لا يراها الإنسان، فهذه مجذوبة إلى هذه، في فلكها تدور، فيدور القمر حول الأرض، والقمر والأرض مع بعضهما يدوران حول الشمس مع باقي مجموعة الكواكب الشمسية التي تدور حولها مرتبطة بها، لا تنفك عن جاذبيتها، فكأن معنى (بغير عمد): ليس هناك أعمدة كالتي تتخيلونها، عموداً بين الأرض وبين السقف، يرتفع عليه السقف، فترى عموداً، فليس الأمر كذلك، ولكنه شيء آخر من قدرة الله سبحانه، جعله من تجاذب بين هذه مع هذه، فلو زادت كمية الجذب لدخلت المجموعة الشمسية بداخل الشمس فأحرقتها، ولو ضعف هذا التجاذب لابتعدت عنها، وتاهت في الفضاء، وضاعت، ولما لم يحدث شيء من ذلك دل على قدرة الله العظيمة في ربط هذه الأشياء بعضها ببعض، هذا على النطاق الضيق.
والمجرات مليارات، وكل منها يحتوي على مليارات المليارات من الشموس والأقمار والنجوم، وكلها تدور في هذا الفضاء الواسع العظيم، فيرينا الله سبحانه آياته العظيمة، فلا توجد أعمدة مرئية كالتي تتخيلها، ولكن الله يخلق ما يشاء مما لا ترون يجذب هذه إلى هذه، فتدور هذه حول هذه، ويحرك هذه بطريقة، وهذه بطريقة، وكل في فلك يسبحون في هذا الكون العظيم.
إذاً قوله سبحانه: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [لقمان: ١٠] جملة (تَرَوْنَهَا) إما أنها وصف للأعمدة، أي: بغير عمد مرئية، أو هي على الحال من السموات، فيكون المعنى: خلق السموات حال كونكم ترونها بغير عمد، أي: لا أعمدة حقيقة موجودة فيما بينها، وكلا المعنيين صحيح.
فليست أعمدة على الوجه الذي نعرفه ونتخيله، أنك ترفع سقفاً وتضع أربعة أعمدة حتى تضع عليه السقف، فليس الأمر كذلك أبداً، بل إن الله سبحانه وتعالى خلقها بنظام معين، من قوة شد وجذب بين هذه الكواكب، الله قدرها وخلقها سبحانه وتعالى على غير ما تعرفه أنت مما اعتدت عليه.