تذكير لقمان لابنه بعلم الله المحيط بكل شيء
يقول الله عن لقمان أنه قال لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا﴾ [لقمان: ١٦]، وهذه المرة الثانية التي يقول فيها: يا بني، وقد ذكرنا أن فيها قراءات: (يا بنيَّ) بالفتح، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء كلهم يقرءونها: (يا بنيِ).
وقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) هذه قراءة الجمهور، والمعنى: إذا وجد هذا المثقال الذرة من الخردل ثم اختفى في أي مكان من الأماكن، فاسم (كان) الضمير، والخبر: مثقال.
وقراءة نافع وأبي جعفر: (إنها إن تك مَثْقالُ حبةٍ من خردلٍ) على أن مثقال اسم لكان.
والخردل حبوب رقيقة وصغيرة جداً، أقل وأرفع من النملة، ووزنها شيء يسير، وهي التي يصنعون منها غاز الخردل السام المميت الذي يستخدم في الحروب.
فقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي: هذه الحبة التي هي أقل حبة يعرفها الإنسان، إذا كانت هذه الحبة السوداء الصغيرة مختبئة بداخل صخرة، وهذه الصخرة مختفية بين السماء والأرض، فلا أحد يستطيع أن يبحث عنها، يقول الله سبحانه: (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) سبحانه وتعالى، مهما دقت أو صغرت فالله يعلمها ويأتي بها سبحانه.
والمعنى أين ستهرب من الله أيها الإنسان إذا كان هذا المثقال من الخردلة التي لا تساوي شيئاً إذا اختفى في أي مكان في السماوات أو في الأرض أتى به الله؟ فكيف بالشيء الكبير؟ والمعنى: أنه لا تخفى عنه خافية سبحانه وتعالى، ومهما دق من عمل الإنسان، ومهما أخفى من سر، ومهما أخفى من نيته في عمله، فالله يعلمه، ويجازي به يوم القيامة.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وهنا بيان للإنسان أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء، وأن رزقه الذي لا يراه فالله يراه، والذي لا يعلمه فالله يعلمه، والذي يبحث عنه في كل مكان فهو عند الله مقسوم، وسيأتيه في وقت قدره الله سبحانه وتعالى.
وهنا بيان للإنسان، أن يعبد ربه وسيأتيه الفرج من عند الله من حيث لا يحتسب.
فالإنسان يبحث عن الرزق، والله يوجد هذا الشيء الذي يبحث عنه، ولذلك جاء في حديث النبي ﷺ في أمر رزق العبد المقسوم عند الله سبحانه فيما رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن عساكر من حديث جابر مرفوعاً: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، وهذا حديث حسن، وفيه: أن ابن آدم لو هرب من رزقه بحيث لا يريده فإنه سيأتيه.
وكذلك العكس، فلو طلب العبد شيئاً لم يقدره الله عز وجل له، وجرى وأتعب نفسه حتى كاد يناله، فإنه سيفلت من يده، ولن يحصل عليه، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فالله عز وجل مقدر الأرزاق والأقوات، فيأتي بالرزق من حيث لا يحتسب الإنسان ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٢ - ٣].
وقال لنا هنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: ١٦]، لطيف من اللطف، وهو دقة العلم، فالله لطيف يعلم ما خفي وما دق، ويعلم ما جل وما عظم، فيعلم كل شيء، ولطف الله سبحانه رحمته، ففي وقت يضيق الأمر بالإنسان، وتأتيه المصيبة العظيمة التي تكاد تفتك به، فإذا بلطف الله عز وجل يأتيه ويهدئ من روعه، ويجعله يصبر ويتصبر على هذا البلاء، فكأن اللطف يتعلق بدقة علم الله سبحانه، وبرحمته.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فلطفه في رحمته، وخبرته في علمه سبحانه وتعالى، فهو عليم بكل شيء، فهذه خبرة الله سبحانه وتعالى.


الصفحة التالية
Icon