تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض فرحاً)
إذا كان الإنسان يتعرض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعله قد يستشعر في نفسه أنه أعلى من غيره وأنه أفضل من غيره، وتحدثه نفسه بالعجب والخيلاء والاستكبار على الخلق، فتأتي النصيحة التالية: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: ١٨] أي: لا تعوج على الخلق وتظن في نفسك أنك خير من الناس، فلعل هذا الذي تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر يكون خيراً منك في يوم من الأيام، وكم من إنسان قليل في علمه يدعو إنساناً جاهلاً لا يعرف شيئاً، فإذا بهذا الإنسان الجاهل يتوب ثم يتعلم ويفوق هذا الذي دعاه إلى الله سبحانه وتعالى؛ لذلك لا تغتر ولا تتكبر على الخلق، ولا تظن أنك أنت الذي هديت فلاناً، إنما الهدى بيد الله سبحانه يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
لذلك الإنسان المؤمن يخاف من الله عز وجل، فتراه يدعو الخلق إلى الله سبحانه، ويتمنى لهم أن يؤمنوا وأن يثبتوا وأن يثبت معهم هو على هذا الدين، ولا يرى لنفسه فضلاً على أحد أبداً، أما الإنسان المغرور إذا دعا إنساناً يستشعر أنه هو الذي سينجيه من النار، وأنه هو الذي بيده أن يحوله من ضلال إلى هدى، وأن له فضلاً على غيره، وأنه يستحق أن يكون من أهل الجنة، فليحذر المؤمن -وخاصة الذي يتحكم بالأمر بمالعروف والنهي عن المنكر- من الغرور، ومن أن يصعر خده للناس.
والتصعير والصعار: داء يصيب الإبل فيعوج رقبة الجمل، فكذلك الإنسان المغرور يعوج رقبته على الناس، يرفع شيئاً من عنقه على الناس متعالياً مستكبراً مختالاً فخوراً بنفسه.
قال تعالى: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا﴾ [لقمان: ١٨] قالوا في معناها: لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً بنفسك واحتقاراً للخلق، هذا تأويل ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من أهل العلم.
وقيل في معناها أيضاً: (تصعر خدك للناس) أي: أن تولي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، فكل إنسان له قدر عند نفسه، وله قدر عند خالقه سبحانه وتعالى، والله أعلم بهذا الإنسان، فلا تحتقر أحداً من الخلق، ولكن ادع إلى الله سبحانه وتعالى، وظن الخير في غيرك، لعل هذا الذي تنظر إليه بازدراء واحتقار يكون أفضل منك في يوم من الأيام.
فعامل الناس بالصورة التي تحب أن يعاملوك بها، وانظر للذي تأمره وتنهاه وضع نفسك مكانه، إذا كنت أنت مكانه في هذه المعصية وهو يأمرك، فإنك تحب أن يأمرك باللين، فكن ليناً أنت معه، وأمره بالطريقة التي تحب أن يأمرك هو بها في يوم من الأيام، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فالمعنى: أقبل على الناس متواضعاً مؤنساً مستأنساً، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، وكذلك كان النبي ﷺ يفعل، ومن هذا المعنى: ما جاء في حديث أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً) يعني: لا تتعاطوا أسباب البغضاء فيما بينكم، بل أبعد هذه الأسباب التي تفسد العلاقة بينك وبين أخيك، ولا تعط دبرك -أي: ظهرك- لأخيك وتنصرف من الناحية الأخرى، لأن هذا قد يكون من باب المخاصمة، ومن باب الكبر والغرور، حيث إنه يرى نفسه أفضل منه.
وليس معنى ذلك: أن الإنسان يهين نفسه، فلم نؤمر في الشريعة بأن يهين أحدنا نفسه، فإن بعض الناس إذا ذهبت إليه قد يسخر مني، ولم تأمرني الشريعة أن أذهب إليه حتى يسخر مني، وقد أرى الإنسان الذي عنده غرور عجب بنفسه أني إذا تكلمت معه نزل علي وأزرى بشأني، فإن هذا لا يستحق أن يتكلم أحد معه، فالشريعة لا تأمرنا بأن نهين أنفسنا، ولا تأمرنا بأن نترفع على الخلق، فلا بد أن تكون مع الناس لطيفاً رءوفاً رحيماً كما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولا مانع من تأديب الإنسان، كأن يكون الإنسان معلماً يعلم غيره، ويؤدبهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، ويزجر من يستحق أن يؤدب وأن يزجر، وليس في هذا شيء من الغرور، فقد كان النبي ﷺ يزجر من يستحق ذلك من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عمر بن الخطاب بصحيفة من التوراة قد ترجمت له وفيها مواعظ، فأراد أن يقرأها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب منه النبي ﷺ وقال: (ما هذا يا ابن الخطاب؟!) والعادة منه ﷺ أن يقول: يا عمر، أما في هذه المرة فقال: (ما هذا يا ابن الخطاب) والخطاب أبو عمر مات كافراً فكأن عمر عندما يأتي بصحيفة من التوراة ويقرؤها يعود إلى الكفر، فقال عمر: (يا رسول الله! صحيفة من التوراة أتيت بها حتى أزداد بها علماً، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، أي: لو كان موسى حياً في وجود النبي ﷺ فلا يحل له أن يقرأ في التوراة، بل يلزمه أن يتابع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من تأديبه صلوات الله وسلامه عليه، وقد أدب كعب بن مالك، وأدب غيره ممن تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، وهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تأدبوا الثلاثة، وكانوا عبرة وعظة لهم ولغيرهم.
إذاً: التأديب والزجر للإنسان ليس معناه: الغرور عليه، فالدين يأمرنا أن نهجر أهل المعاصي، فإن لم يكن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنك تلجأ إلى الزجر والتأديب، وفيه هجر لهذا الإنسان حتى يرجع إلى دين الله، ويراجع الصواب.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا) أي: لا تتعاطوا أسباب ذلك، أسباب الهجر، وأسباب القطيعة، وأسباب الحسد، وأسباب البغضاء، فالمسلم يرى نفسه أخاً لأخيه المسلم، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا أمر بالمعروف كان أمره بالمعروف معروفاً، وإذا نهى عن المنكر لم يكن فاحشاً ولا بذيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) فيكون الإنسان المؤمن رءوفاً رحيماً لطيفاً رفيقاً مع من يأمرهم من الناس، ويتمنى أن يتركوا ذلك الشيء السيئ قبل أن يأتيهم، وشتان بين إنسان تواضع لله وأخلص النية لله، وإنسان آخر أراد أن يقال عنه: فلان كذا، وفلان كذا.


الصفحة التالية
Icon