تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: ٦ - ٧].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآيات السابقة كيف أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، فذكر من خلقه العظيم السماوات والأرض والعرش، ثم ذكر أنه ليس للخلق من دونه من ولي ولا شفيع، إذا كانت هذه مخلوقات الله سبحانه تبارك وتعالى، خلقها وسخرها وسيرها وألزمها بما يريده سبحانه تبارك وتعالى، فأتت ربها طائعة خاشعة لله كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] فهذه السماوات وهذه الأرض وهذه الجبال أقوى من الإنسان بكثير.
ولذلك يقول الله سبحانه: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [النازعات: ٢٧ - ٣٣].
فذكر أن الإنسان ضعيف بأصله وخلقته، ضعيف بما آتاه الله عز وجل من قوة، فهو ضعيف إذا قارن نفسه بهذه الأرض التي يعيش فوقها، والتي يموت فيدفن بداخلها، فلو أنه ضرب بقدمه الأرض ما استطاع أن يخرق الجبال، ولذلك قال الله عز وجل للإنسان: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧] مهما أوتيت من قوة، ومهما أوتيت من شيء لن تقدر على أن تخرق الأرض إذا ضربتها بقدمك، بل تتقطع قدمك ولا تستطيع أن تخرقها، ولو أنك تطاولت ورأيت نفسك أطول من غيرك لن تبلغ طول الجبال، فارجع إلى نفسك وتب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغتر بنفسك.
وهنا يذكر خلق السماوات والأرض وخلق العرش العظيم، ثم يقول: مالكم من دون الله سبحانه من ولي ولا شفيع، والولي: القريب الذي يدافع عنك من أعمام أو إخوة أو بني أعمام ونحو ذلك، مالكم من دونه من ولي ولا أقرباء يناصرونكم، ولا شفعاء يأتون فيسترحمون من أجلكم إلا أن يأذن الله لمن يشاء، فتذكروا واعتبروا واتعظوا بذلك، أفلا تتذكرون قدرة الله سبحانه ومخلوقاته فتعرفون قدر ربكم سبحانه؟! ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: ٦٧].
ثم ذكر أنه سبحانه: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة: ٥].
((يُدَبِّرُ)) يقضي ويقدر وينزل سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: ((الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ)) فتنزل الملائكة بأمر الله سبحانه وتدبيره في كونه يأمرهم: افعلوا كذا وافعلوا كذا وأتوا بكذا فتنزل الملائكة بأمر الله، ويتعاقبون فيكم بالليل وبالنهار، فتعرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، فهؤلاء يقضون النهار مع البشر، وهؤلاء يقضون الليل مع البشر، ويعرج كل منهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا النزول بأمر الله، وهذا العروج بالإخبار لله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا القدر الذي ينزلون فيه لو أن مخلوقاً من مخلوقات الله عز وجل -غير الملائكة-أراد أن ينزل وأن يصعد بما آتاه الله عز وجل من سرعة ما قدر على ذلك في ألف سنة، ولكن الله جعل للملائكة القدرة على أن ينزلوا ويصعدوا في مقدار يوم واحد، فينزلون بالليل والنهار فيما لا يقدر عليه الخلق في مدة ألف سنة قال تعالى: ((ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)).