شبهة القول أن لآدم أباً والرد عليها
من العجب ما تسمعه من بعض المتحذلقين الذين يتكلمون في خلق آدم عليه السلام ويقولون: إن آدم له أب وأم قبل ذلك، وكأنه ينكر ما يقوله القرآن! ومما يزيد الأمر عجباً أن الذي يتكلم بذلك رجل من الدكاترة وأستاذ في القراءات! وصدق معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه حين كان يقول: اتقوا زيغة الحكيم، فقد يكون الإنسان عالماً من العلماء وفجأة يخترع شيئاً من الأشياء العجيبة التي لم يقلها أحد قبله، فتعجب! ويقول قولاً يعارض القرآن كقول من يقول: إن آدم له أب وأم معارضاً قوله عز وجل: ﴿بَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: ٧]، والإنسان الذي خلق من طين هو آدم عليه السلام، وهو الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه سبحانه تبارك وتعالى، كما يدل على أنه لم يكن قبله بشر، وإنما خلق قبل آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الملائكة والجان، ويدل على أن الجن خلقوا قبل الإنس أنه لما أراد الله أن يخلق آدم أعلم الملائكة بذلك، فاعترضت وقالت لربها: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠]، فقد ذكر أهل التفسير أن الجن سكنوا الأرض قبل الإنس وسفكوا الدماء وكان هذا سبب اعتراض الملائكة كما تقدم، ولكنهم في اعتراضهم لم يذكروا أن إنساناً جديداً قد قطن الأرض، فلا حاجة لخلق إنسان آخر.
ثم بعد أن خلق آدم عليه السلام من الطين من غير أب ولا أم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، وليس معنى أنه خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم أن يكون الذكور نقص من أضلاعهم ضلع، ولكن خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وكيف خلقت منه؟ هذا أمر الله عز وجل لم يطلعنا عليه، وليس بالضروري أنه إذا خلقت من ضلع من أضلاع آدم أن يكون نقص من آدم ومن ذريته شيء! إذ لم يثبت في ذلك شيء.
ومن الأدلة على أن حواء خلقت من آدم ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم أيضاً أن رسول الله ﷺ قال: (استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم قال: (إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج)، فهذا حديث في الصحيحين، ومن ينكر مثل هذا الحديث ويقول: إنه عالم في القراءات، لنا أن نسأله من أين أخذ علم القراءات إلا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الذي روى القرآن هو الذي روى لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا جاء إنسان ينكر أحاديث النبي ﷺ ويقول: لم يصح هذا الحديث نقول: هذا يشكك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشكك في السنة يشكك بعد ذلك في القرآن؛ لأن الذين رووا لنا السنة هم الذين رووا لنا القرآن، فكيف يأخذ بهذا ويترك بهذا؟ لذلك نقول ما قاله معاذ رضي الله عنه: اتقوا زيغة الحكيم، وهذا الأثر رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني - واسمه عائذ الله - عن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كان معاذ لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون المتشككون في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، قال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، وهذا أثر عجيب لا يقال من قبل الرأي، فإذا قاله معاذ فإنه لا يقوله من قبل رأيه، فإنه لا يعرف الغيب لكي يقول هذا الشيء، وبذلك علم ضرورة أنه سمع من النبي ﷺ هذا المعنى فساقه معاذ رضي الله عنه، والإسناد صحيح إلى معاذ بن جبل وهو سلطان العلماء رضي الله عنه، وسابق العلماء إلى الجنة.
قال معاذ رضي الله عنه: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر.
وفيه أن الله عز وجل يفتح على الناس من المال، ويفتح عليهم بحفظ القرآن حتى يحفظ القرآن الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحر والعبد، قال: فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟! ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع! قد يكون الإنسان حافظاً للقرآن ذا علم به، فحينما يرى الناس لا تتبعه، يفكر في إحداث شيء يلفت انتباههم إليه، كأن يغني لهم القرآن بطريقة من طرق الألحان التي لا تعرف عن النبي ﷺ وعن أصحابه في قراءة القرآن.
يقول معاذ: فإياكم ما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلال، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، يعني: أن إنساناً قد يكون حكيماً، إلا أنه يسقط أو يهوي في براثن شبهة من الشبه، فيحدث أمراً ما جاء قبل ذلك في دين الله عز وجل، ويظن أنه أتى بشيء حسن، وقد يقع العكس فقد يكون الإنسان منافقاً، ويتكلم بالحق مرة فجأة.
يقول الراوي عنه: قلت لـ معاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، يعني: قد يكون الإنسان عالماً من العلماء، وفجأة يأتي بقول جديد ما قيل قبله، كهذا الدكتور الذي ظهر علينا فجأة ليقول: آدم كان له أب وأم قبل، هل له أن يرينا أين هذا في القرآن؟ فإن قال: القرآن ما نفى، نقول: ولم يثبت القرآن ما تقول، والأصل في العلم الإثبات وليس النفي، فإذا كان القرآن لم ينف ذلك لكنه لم يثبت هذا، فنقول: القرآن سكت عن هذا أو تكلم فيه، أي هل القرآن ذكر قبل آدم وجود أب وأم لآدم قبل ذلك أم سكت عنه؟ فإذا قال: تكلم فيه، نقول له: أين في القرآن ما تكلم به؟ فإذا قال: سكت القرآن عن ذلك، نقول: إن سكت القرآن أفلا يسعك أنت السكوت، وإذا كان القرآن لم يتكلم في ذلك، أفتتكلم أنت في ذلك بغير علم أم أنك تتكلم في هذا للشهرة؛ لكي يقول الناس: قال الذي ما قيل وأتى بالذي ما أُتىَ به قبل ذلك؟ فهذا أتى بشيء في الدين لم يقله الله عز وجل، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع في مخالفة الكتاب والسنة ووقع في الضلال، وإني لأتساءل ما الذي يدفع المسلمين إلى ذلك؟ وإذا كان من يقول ذلك من علماء المسلمين فكيف بآحاد الناس، وكيف بالمستشرقين الذين لا يألون جهداً في الطعن في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد اتبع الناس بعضهم في دين الله عز وجل، وتركوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء العلماء بالبدع فقد ضاع دين الله ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول معاذ رضي الله عنه: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، والمراد بالمشتهرات الشيء الذي يشتهر به بين الناس ولم يقله أحد قبله، يقول معاذ: التي يقال لها: ما هذه؟ أي: التي تنكرها القلوب، وينكرها أصحاب العقول، ثم يقول: ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً أو كما قال رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فقد ذكر الله آدم في مواضع كثيرة من كتابه سبحانه، ولم يذكر سبحانه أن لآدم أباً ولم ينفه عنه إنما ذكر أن بدء الخلقية من البشر آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأنه أول من علمه الله سبحانه أسماء كل شيء، وليس هناك ما يثبت ما يقوله دكتورنا المتحذلق وغاية ما يستدل به قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ﴾ [آل عمران: ٣٣] حيث يزعم أن آدم كان في مجموعة ثم اصطفى الله منهم آدم، والرد على ذلك أن نقول: اصطفى آدم من البشر كبشر، فكل البشر إذا جاءوا يوم القيامة يجدون آدم قد اصطفاه الله عز وجل وفضله على غيره، كما تدل الأحاديث عن النبي ﷺ على ذلك، وليس معناه إن آدم كان موجوداً في مجموعة من البشر ثم اصطفاه الله من هذه المجموعة، بل خلقه الله عز وجل من التراب كما أخبر سبحانه، وأخبر أنه علمه الأسماء فقال: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١].
فالملائكة لا تعلم إلا ما علمها الله سبحانه، وقد فضل الله آدم عليها وعلمه أسماء الأشياء، ولو كان قبله أب وأم لكان أبوه وأمه هما اللذان علماه هذه الأسماء كما يعلم البشر آباؤهم وأمهاتهم، ولكن لكون آدم لم يكن قبله لا أب ولا أم فقد اصطفاه الله وعلمه، فالله هو الذي خلقه من تراب وجعله آية من آياته، وهو الذي علمه أسماء كل شيء سبحانه فقال للملائكة: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ٣١ - ٣٣].
ثم ذكر الله عز وجل في القرآن ابتلاء آدم عليه السلام فقال: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥]، فلو كان لآدم أب لتساءلنا أكانوا في الجنة أم كانوا في الأرض أم كانوا في كوكب من الكواكب الأخرى؟ كيف عاشوا وكيف جاء آدم منهم؟ وكيف انفصل آدم عنهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ لم يذكر لنا القرآن مثل هذه الأشياء، وإنما الذي ذكره القرآن أن الله عز وج


الصفحة التالية
Icon