تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)
قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣] أي: لو أردنا ذلك لجعلنا الجميع مؤمنين ولخلقناهم كالملائكة لا يعصون الله سبحانه، ولكن شاء الله سبحانه أن يخلق خلقاً من خلقه يختبرهم في الدنيا، لهم عقول وقلوب وأسماع وأبصار وأفئدة، ويجعل الله عز وجل أمامهم طريقين: طريق الخير وطريق الشر، وقد علم قبل أن يخلقهم من يستحق أن يكون في الجنة ومن يستحق أن يكون في النار، فإن علمه شامل ومحيط بكل شيء، فلو شاء الله لخلقهم كالملائكة، ولكن شاء أن يختبر صنفاً من عباده وهم الإنس والجن فخلقهم ثم هداهم بأن أرشدهم، قال سبحانه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠] أي: طريق الخير وطريق الشر، ثم هم يكتسبون في هذه الدنيا قال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
فنفس المخلوق تكتسب إما الخير وإما الشر، وعلى هذا الكسب الذي يكتسبه المخلوق يحاسبه الله عز وجل ويجزيه يوم القيامة، فهو يفعل الفعل وهو يشعر أنه قادر على فعله أو تركه، وكل إنسان مطيع يشعر بالقدرة على الفعل والترك، وكل إنسان عاص يشعر بالقدرة على الفعل والترك، فأنت حين تذهب إلى الصلاة تشعر أنك مريد لهذه الصلاة، وأنك ذاهب بإرادتك، ولا تشعر أنك مجبور أو أن هناك أحداً يجرجرك من البيت إلى المسجد وإن كنت أتيت بمشيئة الله عز وجل، وأمر المشيئة إلى الله سبحانه وتعالى، فأنت مطلوب منك أن تفعل بإرادتك وأن تختار، وعلى هذا الاختيار يحاسبك الله عز وجل يوم القيامة.
فأهل الجنة يرسلهم إلى جنته بفضله وبرحمته جزاء بما كانوا يعملون، وأهل النار يدخلهم النار بعدله جزاء بما كانوا يعملون، إذاً: هؤلاء عملوا فاستحقوا رحمة الله عز وجل، فزادهم من فضله الثواب العظيم، والأجر الكبير منه سبحانه، وهؤلاء استحقوا العقوبة بجنس أعمالهم، وعصيانهم لله سبحانه، ولو شاء الله لآتى كل نفس هداها، ولأرشد كل نفس ففعلت الخير وكانت من أهل الخير، ولكن تركهم سبحانه وتعالى لينالوا ما يستحقون.
قال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾ [السجدة: ١٣]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها الأصبهاني عن ورش وأبو عمرو وبخلفه حمزة -إذا وقف عليها- وأبو جعفر (ولو شينا لآتينا كل نفس هداها) أي: لأعطينا كل نفس ما تسترشد به وتستدل وتستيقن به فتستحق رحمة رب العالمين سبحانه، ولكن حق القول من الله عز وجل أن يختبر هؤلاء في الدنيا، وأن يجعل لهم اختياراً فيختارون بإرادتهم هذا الطريق أو ذاك الطريق، بعد أن يبين الله سبحانه وتعالى لهم، ولن يخرجوا عن مشيئته سبحانه، قال: ﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩]، فالله خلق الجنة ووعدها أن يملأها، وخلق النار ووعدها أن يملأها، فحق القول من الله عز وجل أن يملأ هذه وتلك ﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ﴾، وكلمة جهنم: تعني النار المشتعلة الحمراء المتلهبة، ولذلك تطلق هذه الكلمة على الشيء المشتعل المتقد، أو العين الشديدة الغضب التي تتقد من شدة غضبها، ولذلك يطلق على عين الأسد جهنم؛ لأن فيها اتقاداً حين ينقض على فريسته، حيث تحمر عيناه من الغضب، فكأن النار كهذا والعياذ بالله أي: شديدة وغاضبة على أهلها ومستعرة ومشتعلة.
قال: ﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] فمن الجن من سيدخلون النار، ومن الإنس من سيدخلون النار، لقد حق القول من الله سبحانه بذلك ووعده الحق سبحانه وتعالى ووعيده ينفذه فيمن يشاء.


الصفحة التالية
Icon