أحوال النبي ﷺ في قيام الليل
جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن نبي الله ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) أي: تتشقق قدماه صلوات الله وسلامه عليه من طول القيام.
فقالت عائشة رضي الله عنها: (لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!) وهذا يدل أنه عمل ذلك ﷺ بعد أن نزلت عليه سورة الفتح وفيها: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح: ١ - ٢].
فالله سبحانه مَنَّ على النبي ﷺ بأن جعله مغفوراً له ذنبه المتقدم والمتأخر عليه الصلاة والسلام، فعصمه الله سبحانه من أن يقع في الذنوب، ومَنَّ عليه بأنه لو حدث منه شيء فالله سبحانه وتعالى يغفر له ما تقدم وما تأخر، وسورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية في السادس من ذي القعدة سنة ست من هجرته صلى الله عليه وسلم، وبعد أن دعا إلى الله سبحانه وتعالى تسع عشرة سنة، حيث دعا إلى الله سبحانه في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة ست سنوات حتى نزلت هذه السورة فأخبره الله عز وجل بقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١]، وكان قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما الذي يدخره له ربه سبحانه وتعالى، ولذلك جاء عنه في حديث أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت عن صبي قد توفي: (طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، فقال: وما يدريك؟ فإني وأنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا أدري ما يفعل بي)، فأعلمه الله عز وجل بعد ذلك بفترة طويلة عليه الصلاة والسلام أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذه السورة كانت قبل وفاته بأربع سنوات عليه الصلاة والسلام.
فتبين أنها قالت للنبي ﷺ ذلك في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فكان استفسارها وتعجبها هو أن الذي يصلي كثيراً، ويقوم كثيراً، ويتعب نفسه كثيراً، هو الذي يطلب المغفرة، أما أنت فقد غفر لك الله فلماذا تقوم؟ وكان الجواب منه ﷺ أن قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام، وقوله: (عبداً) فيه مقام عظيم وهو مقام العبودية لرب العالمين، وهو مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم الليل لله، وهو قريب من الله سبحانه، فالعبد يتشرف بأنه عبد لله سبحانه، فهذا النبي ﷺ يذكره ربه في القرآن في مقامات شريفة بأنه عبد عليه الصلاة والسلام، وفي مقام ذكر الله، وتلاوة القرآن، والمحاجة بهذا القرآن، حيث يقول للكافرين: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة: ٢٣] عليه الصلاة والسلام.
وفي مقام تشريف النبي ﷺ برفعه إلى السماء عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج يقول: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] عليه الصلاة والسلام.
وفي مقام التبليغ والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ [الجن: ١٩] عليه الصلاة والسلام.
فهذا أشرف مقامات العبد بين يدي الله سبحانه.
والإنسان في نفسه ما يدفعه إلى العبودية، وما يدفعه إلى الخضوع، فإما أن يوجه ذلك إلى الله عز وجل، وإما أن يأنف عن ذلك فيوجهه الله عز وجل إلى أحقر خلقه، فيصير عابداً للهوى، وعابداً للشيطان، وعابداً للإنسان، وعابداً للجان؛ لأنه أنف واستكبر عن عبادة الله سبحانه، وتطاول عن أن يعبد الله سبحانه، وظن أنه حر في نفسه يعمل ما يشاء دون تقيد بأحد، فنقول لمن كان هذا حاله: أنت لست حراً على الله سبحانه وتعالى ولكنك عبد لله، فإما أن ترضى بذلك كما رضي رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام عليهم السلام، وإما أن تأنف فتكون كالشيطان، فيكون مصيرك مصيره، فانظروا إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إذ يقول الله سبحانه عنه: ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء: ١٧٢]، بل الكل عبيد لله سبحانه، قد رضوا بذلك فأرضاهم الله سبحانه وتعالى.
كذلك نبينا ﷺ يقول: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟)، تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما كثر لحمه صلى جالساً) عليه الصلاة والسلام أي: لما أسن وكبر في سنه ﷺ فصار عظمه لا يحمل بدنه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما يفسر ذلك في حديث آخر وفيه: (لما بَدَّن أو لما بَدُن) يعني: صار ثقيلاً عليه الصلاة والسلام حتى إن عظامه لا تحمل جسده ﷺ في القيام الطويل، ليس معنى ذلك أنه صار سميناً، بل المعنى: أنه ﷺ كان قيامه لليل في وقت طويل جداً، يستغرق صلاته الليل عليه الصلاة والسلام قائماً على قدميه، فلما تعب صلوات الله وسلامه عليه صار يقوم جزءاً من الليل ويقعد جزءاً، فيصلي صلاة طويلة قائماً، ثم يقعد ويصلي قاعداً، ثم يقوم ﷺ ويكمل قائماً بحسب ما يستريح عليه الصلاة والسلام.
تقول: (فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع صلوات الله وسلامه عليه).


الصفحة التالية
Icon