تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة: ١٥ - ١٦].
مدح الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين لأنهم يقبلون على ذكر الله سبحانه، ويخرون لله سجداً، ويسبحون بحمد ربهم وهم لا يستكبرون.
كذلك ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦] أي: لا ينامون الليل كله ولكن يقسمونه أجزاء فينامون ويستريحون في جزء من الليل، ويقومون لله سبحانه في جزء آخر، فيصلون ويذكرون الله، ويطلبون العلم، فهم في قيامهم الليل في ذكر وفي فقه وفي علم وفي تعلم وفي خشية لله، وفي قراءة القرآن وسماعه وغير ذلك.
وقد جاء عن النبي ﷺ أحاديث في هذا المعنى، منها ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان لا يفر إذا لاقى عليه الصلاة والسلام).
فأحب الصلاة إلى الله سبحانه صلاة داود، فكان يقسم ليله فنصفه ينام فيه فيستريح ثم يقوم ثلث الليل ثم ينام سدس الليل، فقسم الليل أسداساً فثلثين من الليل للنوم وثلث لقيام الليل.
والمؤمن يقتدي بفعل النبي ﷺ وبفعل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فنبي الله داود كان ينام ثم يقوم الليل ثم ينام، والنبي ﷺ يخبر عن حاله أنه كان يقوم الليل وينام فيه عليه الصلاة والسلام، وأخبر عن رجل نام حتى أصبح، أي: نام الليل كله من أوله إلى آخره حتى جاء وقت صلاة الصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
والشيطان لا يترك الإنسان أبداً، فيأتيه عند النوم ويعقد على قافيته كما جاء في حديث النبي ﷺ في الصحيحين أنه قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) وفي رواية أخرى: أنه يأتي بجرير وهو حبل فيعقده الشيطان على رأس الإنسان عند النوم ويعقد ثلاث عقد، ولذلك يتعلم السحرة من الشيطان هذا الشيء، ﴿وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ [الفلق: ٤] يعقدون الخيط وينفثون فيه بكلام يقولونه حتى يغووا خلق الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالمؤمن إذا نام جاء الشيطان عند رأسه فعقد على رأسه عند قفاه ثلاث عقد يضرب على كل عقدة ويقول: عليك ليل طويل فارقد، فيوهم الإنسان أن ما زال الليل أمامه طويلاً فينام، فكلما أراد أن يستيقظ ليصلي أو يذكر الله عز وجل قال له الشيطان: مازال الليل طويلاً، فينام حتى تطلع الشمس وضاع عليه الليل فلا قام الليل ولا صلى الصبح.
فالشيطان يضحك على هذا الإنسان ويستهزئ به حتى أنه يبول في أذنيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي ﷺ يعرف ما لا نعرف، ويرى ما لا نرى صلوات الله وسلامه عليه.
ولو قيل لإنسان: إن إنساناً يبول في أذنك لأنف عن ذلك وتغيظ وعادى هذا الذي يفعل ذلك، فكيف بهذا الشيطان الذي يتوعد الإنسان أنه سيبول داخل أذنيه، ومن يرضى لنفسه أن يستهين به الشيطان ويضحك عليه، ويسخر منه ويبول في أذنيه، فهذا الذي ينام الليل كله ويضيع ليله في النوم، والذي يضيع ليله سهران يتفرج على التلفزيون وعلى الدش وعلى كذا، فيا ترى ماذا سيعمل الشيطان بهذا الإنسان؟ وإذا كان الشيطان سخر من الذي لم يقم يصلي بالليل واستهان به واحتقره فتبول في أذنيه، فكيف بمن يقضي الليل في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، ويجلس يتفرج على الحرام، ويضيع وقته في الحرام ولا يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى؟! لذلك الإنسان المؤمن علم من القرآن ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: ٦] والشيطان يدعو أصحابه من بني آدم لكي يدخلوا النار؛ لأن آدم هو السبب في إخراج الشيطان من الجنة، وهو السبب في أنه لن يدخلها؛ لأن الشيطان لم يرض أن يسجد له، وعلى ذلك توعد الشيطان بني آدم كما قال تعالى عنه: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢]، وقال: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ [سبأ: ٢٠] أي: ظن إبليس ظناً وصدقه على أوليائه وعلى أتباعه، فإذا بهم يطيعون الشيطان، ويبتعدون عن طاعة الله، فيثقل عليهم أن يقوم أحدهم فيصلي ركعتين من الليل، ولو أنه قام في مكان لغير الصلاة، أو مشى ليلاً على البحر أو كان يلعب فإنه يمكنه هذا الشيء، لكن أن يصلي ركعتين فهذا ثقيل عليه، وقد يسهر الليل في ضحك وفي لهو أما أن يصلي لله عز وجل فهذا لا يمكن، والإنسان إذا أراد أن يصلي يأتي إليه الشيطان ويجعله يتعب من صلاته ويمل منها ويسرح فيها، بل يريد أن يخرج منها مباشرة، مع أن صلاة الليل من أجمل ما يكون من الصلاة، قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: ٦].
فعلم النبي ﷺ أصحابه وحثهم على أن يقوموا من الليل، ولذلك جاءت أحاديث عنه صلوات الله وسلامه عليه فيها الحث على ذلك، منها هذا الحديث الذي يخبر أن الشيطان يقعد لكم بالمرصاد ويفعل ذلك.
ويزيل المؤمن عن نفسه عقد هذا الشيطان بالعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة) والإنسان أول ما يقوم بالليل فإنه يضبط المنبه على أن يقوم قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة أو أكثر أو أقل، فأول ما يسمع المنبه لا يطفئه ويكمل نومه، ولكن يستيقظ من نومه ويذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي عافاني في بدني، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره.
فيقوم ويجلس ويذكر الله ثم يتوجه فيتوضأ ليصلي لله سبحانه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده أو عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس) الذي قام فصلى من الليل شيئاً وصلى الفجر يصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.


الصفحة التالية
Icon