وقوع النسخ في القرآن
فالغرض أن هذه السورة من السور التي نسخت منها آيات وكانت سورة كبيرة، والله عز وجل ينسخ بمعنى: يرفع، فهو إما أن يرفع الآية تلاوة وحكماً، وإما أن يرفعها تلاوة فقط ويبقى الحكم، وإما أن يرفعها حكماً فقط وتبقى التلاوة.
فالله عز وجل ينسخ ما يشاء سبحانه، وقد ذكر في سورة البقرة: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦]، فالله على كل شيء قدير.
فيأتي بأحكام للعباد، ويبتلي عباده بآياته وأحكامه سبحانه وتعالى أيؤمنون أم يكفرون؟ وجههم إلى الكعبة بعد أن كانوا متوجهين إلى بيت المقدس، فكان النبي ﷺ في مكة يصلي إلى الكعبة متوجهاً إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم ينفع هذا الأمر، فهو إما أن يتوجه إلى الكعبة، وإما إلى بيت المقدس، فتوجه إلى بيت المقدس وظل على ذلك ثمانية عشر شهراً أو نحوها.
وبعد ذلك إذا بالله عز وجل يوجهه إلى الكعبة كما قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: ١٤٤]، فإذا بالمنافقين واليهود يقولون: إما أنه كان على الصواب فتغير إلى الخطأ، وإما أنه كان على الخطأ فتغير إلى الصواب، وفي كلا الحالتين كان مخطئاً في ما يفعل، وهذا التشكيك لإلقاء الشك في قلوب المؤمنين.
والنبي صلوات الله وسلامه عليه على الحق دائماً، فما ينطق عن الهوى، ولا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه، ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كذبهم الله عز وجل فيما قالوا وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥]، وسواء وجهكم إلى المشرق أو إلى المغرب فالله عز وجل له أن يوجه إلى ما يشاء، وطالما أنتم مطيعون لله عز وجل في توجهكم فأنتم على الحق وأنتم على عبادته سبحانه وتعالى.
وكذلك في إنزاله القرآن، فإنه ينزل آيات بغرض معين ثم بعد ذلك إما أن يستمر الحكم فيها، وإما أن ينسخه الله عز وجل لحكمة عنده، وقد تعلم هذه الحكمة لنا أو تخفى عنا.
ولذلك لما أراد الله أن يحرم الخمر إذا به يتدرج مع الناس في تحريمها، فعرفنا الحكمة وهي أنه لو أمر مرة واحدة بترك الخمر لما تركها الناس، ولكن الله عز وجل بدأ يشير إلى أن الخمر فيها مفاسد وأن فيها إثماً، وأن فيها إذهاباً لعقل الإنسان، ولهواً عن الصلاة.
فنهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣]، ثم يتدرج معهم عن الخمر والميسر فيقول: ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: ٢١٩]، ثم يأتي التحريم القاطع على ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠].
فهنا تدرج مع العباد، فلما أنزل آيات فإذا بالنبي ﷺ يقول لأصحابه: (إني أرى الله يشير بتحريم الخمر أو يعرض بتحريمها، فمن كان عنده شيء منها فليتخلص منها ببيع ونحوه)، أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا الإشارات في الآيات الأول، وفيها تعريض للمسلمين بأن الخمر ستحرم، وتنبيه بأن لا يضع أحد ماله في الخمر فتدرج معهم شيئاً فشيئاً فقال، (فمن كان عنده شيء منها)، وهذا في وقت لم يحرمها الله عز وجل، فإذا بالرجل منهم يبيعها ويتخلص منها.
ومن بقيت عنده بقايا منها إذا به تنزل عليه آيات التحريم فيتخلص منها فوراً؛ لأنها صارت محرمة.