أقوال المفسرين في معنى (ما جعل الله لرجل من قلبين)
يقول: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: ٤] وكأن هنا أناساً ادعوا ذلك فأكذبهم الله سبحانه وتعالى.
وهذه الدعوى محتملة من الإنسان، فقد يدعي لنفسه أنه كذلك؛ ليري الناس أنه أفضل من غيره حتى من النبي ﷺ ويدعو الناس إليه، فإذا بالله يكذب من يقول ذلك، وأن الله جعل القلب قلباً واحداً في كل إنسان: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: ٤].
وقد يكون بعضهم اتهم النبي ﷺ بذلك، وقالوا: إنه ذو قلبين: قلب معكم وقلب مع غيركم، يرمونه بذلك عليه الصلاة والسلام، فيكذبهم الله بأنه ما جعل لأحد من قلبين لا النبي ﷺ ولا غيره، وإنما هو قلب واحد في كل إنسان.
قال مجاهداً: نزلت هذه الآية في رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين، ويلقبونه بأنه صاحب القلبين، لماذا؟ وقالوا: إن ذلك من ذكائه، وإنه كان شديد الدهاء، والمكر، فهذا الإنسان كان يمكر ويكيد ويزعم أن ذلك من الذكاء الشديد، فكانوا يلقبونه بذي القلبين من دهائه.
وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد، وكان رجلاً ثرياً، واسمه جميل الفهري، وقيل: بل هو غيره.
الغرض أن هذا الرجل كان شديد الحفظ، يسمع الشيء فيحفظه بسرعة، فكان مُعجباً بحفظه ومعجباً بذكائه، فيقول للناس: أنا أولى بالاتباع من محمد! فقالت قريش: لا يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان، فهو ادعى دعوى وهم صدقوه في ذلك؛ لأنه يحفظ بهذه السرعة.
فلما كانوا في يوم بدر كان هذا الرجل من ضمن الكفار الموجودين، وكان ممن هرب في يوم بدر، فرآه أبو سفيان وهو يحمل نعلاً في يده ونعلاً في قدمه، فقال له أبو سفيان: ما بال الناس؟ قال: انهزموا.
قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك.
فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، أي: كنت أظن أني لابسهما في رجلي، فعرفوا أنه كذاب فيما يدعي من حفظه، ومن أنه ذو قلبين.
فكأنه قال له: لو كان لك قلبان لم تضع نعلاً في يدك ونعلاً في رجلك.
هذا مما قيل في ذلك، والآية تحتمله.
وكذلك جاء أنهم ادعوا على النبي ﷺ ذلك، فهم زعموه لهذا الرجل الذي اسمه جميل من باب المدح له، فلما قالها المنافقون عن النبي ﷺ قالوها من باب الذم والقدح في النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال بعض المنافقين: إن محمداً له قلبان؛ لأنه يكون جالساً معكم وفجأة ينزل عليه الوحي من السماء، فيغيب عنكم ثم يرجع مرة أخرى، إذاً: له قلبان قلب معكم وقلب ليس معكم.
يريدون بذلك أن ينفروا الناس عن النبي صلوات الله وسلامه عليه فأكذبهم الله سبحانه وقال: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: ٤].
أيضاً مما قيل في ذلك: إنها نزلت تمثيلاً في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلوات الله وسلامه عليه -وهي محتملة- تمهيداً لتحريم التبني؛ لأنه لا يعقل أن يكون للإنسان أبوان، بل لا يوجد له إلا أب واحد، كذلك لا يوجد أحد له أمان بل هي أم واحدة، وهي التي ولدت الإنسان، وكان من هذا الأب ومن هذه الأم.
فمن تدعيه تبنياً هو ابن لغيرك وليس ابناً لك، كما أن الله لم يجعل في جوفك إلا قلباً واحداً كذلك لم يجعل رجلاً ابناً لاثنين.
وكذلك قالوا: إن هذا تمهيد للنهي عن الظهار، فالمظاهر يقول لامرأته: أنت أمي وهي ليست أمه، فما جعل الله لإنسان أمين كما أنه لم يجعل له قلبين، إذاً: لا قلبان لإنسان، ولا أبوان له، ولا أمان له؛ فكأن في الآية تمهيداً لتحريم الظهار وتحريم التبني.
وكذلك مما قالوا في معناها وهي تحتمله أيضاً: ليس للإنسان قلب يكفر به وقلب يؤمن به، فإما أن يكون قلبه مؤمناً وإما يكون كافراً ومنافقاً، فلا يجتمع الإيمان مع الكفر في قلب الإنسان، وكيف يجتمع الإيمان الذي هو توحيد لله سبحانه مع الشرك بالله سبحانه والجحود به؟ فالآية على هذا القول تمهيد لتحريم الشرك بالله سبحانه.