أجر المجتهد على اجتهاده وإن أخطأ
ولما أصبح رسول الله ﷺ وقد ذهب الأحزاب وعادوا إلى بلادهم، إذا بجبريل يأتي إلى النبي ﷺ في صورة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة ديباج، فقال: يا محمد! إن كنتم وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة أسلحتها بعد.
وهنا يستحي النبي ﷺ من ذلك، حيث إنه وصحابته قد وضعوا سلاحهم، والملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقال له: إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم.
فتقدم إليهم جبريل فزلزل بهم حصونهم، فألقي الرعب في قلوبهم، فخافوا وارتعبوا من مجيء النبي ﷺ والمؤمنين، فأمر النبي ﷺ منادياً ينادي في الناس: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
فتوجه المسلمون إلى بني قريظة، وفي أثناء الطريق صلى بعضهم العصر، وقالوا: إنما مقصود النبي ﷺ الإسراع في المسير.
وبعضهم لم يصل العصر إلا بعد وصوله إلى بني قريظة، وقالوا: نحن نفذنا أمر النبي ﷺ حرفياً.
فلما علم النبي ﷺ ذلك لم يؤنب أحداً من الطائفتين، فهؤلاء اجتهدوا وأولئك اجتهدوا، فالذين قالوا: نصلي في بني قريظة، أخذوا بظاهر نص النبي صلى الله عليه وسلم، والذين قالوا: نصلي ونذهب إلى هناك، أخذوا بالمعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإسراع في المسير.
وهنا ذكر العلماء في ذلك قاعدة وهي: أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فهو مأجور، وإذا اجتهد فأخطأ فهو أيضاً مأجور، لذلك كان كلا الفريقين على صواب، فالفريق الذي صلى العصر في بني قريظة قد نفذ كلام النبي ﷺ بحرفه، فهؤلاء يكون لهم الأجر أعظم من أولئك الذين صلوا في الطريق.
والنبي ﷺ لم يخطئ واحداً، ولا عنف واحداً من الفريقين، ففيه دلالة على تصويب المجتهدين، فإذا اجتهد هذا واختار رأياً، والآخر اجتهد واختار خلافه، فلا يخطئ واحداً من الاثنين، لكن هل يكون في المسألة قولان كلاهما صواب؟
ﷺ لا، فالصواب قول واحد، فالمجتهد إن أصاب فله أجر عند الله عز وجل، وإن أخطأ فله أجر عند الله تبارك وتعالى، ولذلك لا يعنف هذا ولا ذاك، فالكل اجتهد، لكن إن علم أحد بالدليل أن أحد الاثنين هو المصيب فيلزمه اتباع الدليل، وإن لم يعلم الدليل القاطع فيبقى الجواز بأخذ قول هذا أو ذاك، طالما أن المسألة ليس فيها دليل يدل على تصويب واحد من الاجتهادين.