تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ [سبأ: ٣ - ٨].
في هذه الآيات من سورة سبأ يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن تكذيب المشركين بالساعة، وعن رد الله سبحانه تبارك وتعالى على هؤلاء في تكذيبهم بقيام الساعة.
قال سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ﴾ [سبأ: ٣] قال بعضهم ذلك وصدقهم الباقون، وممن قال ذلك أبو سفيان قبل إسلامه وهو في مكة، وإسلامه كان متأخراً في العام الثامن من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قبيل فتح مكة، وقد كان قبل ذلك من أشد المعادين للنبي ﷺ والمؤمنين.
فكان أبو سفيان يقسم للكفار أن الساعة لا تقوم، فيقول لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً، ولا نبعث.
فكذب الله عز وجل ما قال، وكذب الكفار في دعواهم أن الساعة لا تأتي، فقال الله عز وجل: ﴿قُلْ بَلَى﴾ [سبأ: ٣] هم قالوا: ﴿لا تَأْتِينَا﴾ [سبأ: ٣] فكان
ﷺ (( بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) ستأتي هذه الساعة، هم نفوا ذلك، فأثبت الله عز وجل بهذا اللفظ: ((بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ))، فهم أقسوا بآلهتهم التي لا تنفع ولا تضر، وأقسم الله عز وجل بنفسه سبحانه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم لهم بالله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ [سبأ: ٣].
ستأتيكم ساعتكم وستقوم عليكم قيامتكم، وستأتي ساعة كل إنسان، وستأتي القيامة الكبرى بعد ذلك.
((قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ)) وهذا من أسماء الله سبحانه تبارك وتعالى: علام الغيوب، عالم الغيب، وهو العليم سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: ((عَالِمِ الْغَيْبِ)) هذه قراءة ابن كثير وقراءة أبي عمرو وقراءة عاصم وقراءة الكسائي.
وقرأها غيرهم من القراء بالضم: (عالمُ) وهم ابن عامر ونافع وأبو جعفر: ورويس.
قرأها حمزة والكسائي: (علام الغيب) سبحانه تبارك وتعالى، فهو (عالم الغيب) و (علام الغيب) أيضاً.
((قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) فالوصف لله سبحانه العائد على هذا القسم، (وربي عالمِ الغيب) و (ربي علام الغيب) وصف للمقسم به، وهو: الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقراءة حمزة والكسائي: (علام الغيب) الوصف أيضاً مجرور على الأصل فيها: (وربي) معطوف عليه، فهو مجرور مثله.
(عالمُ الغيب) قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر ورويس ورُفعت؛ لأنها خبر لمبتدأ محذوف.
فالله سبحانه تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة، والله علام الغيوب، يعلم ما خفي، ويعلم كل شيء، ويعلم ما يبدو وما يخفى، وما ينويه الإنسان، بل وما لم ينوه بعد، فهو يعلم ما كان وما سيكون.
قال تعالى: ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ [سبأ: ٣].
(يَعْزُبُ) بمعنى: يغيب، فلا يغيب عن علم الله سبحانه، مثقال ذرة، والذرة: هي النملة الصغيرة جداً، والتي لا يكاد الإنسان يراها، فإذا كان الله عز وجل لا يغيب عنه قدر الذرة، فكيف بما هو أكبر من ذلك؟! لا يغيب عن الله عز وجل شيء في خلقه ولا في كونه سبحانه.
(لا يَعْزُبُ) هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها الكسائي: (لا يعزِب) والمعنى واحد.
﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ﴾ [سبأ: ٣] والمثقال: القدر أو الجزء، إذاً الجزء من هذه الذرة، يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى، سواء كان في السموات أو في كان في الأرض.
قال تعالى: ﴿وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٣] إذاً الذرة التي هي أقل الأشياء الله عز وجل يخبر أنه يوجد أصغر منها، وما كان أصغر منها فالله عز وجل يعلمه سبحانه تبارك وتعالى، وما كان أكبر من ذلك فالله عز وجل يعلمه، فهو يعلم كل شيء سبحانه.
﴿وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٣] فهو عند الله سبحانه تبارك وتعالى في كتاب مكتوب، يحدث كذا في يوم كذا، ويخلق فلاناً وفلاناً، وفلان يعصي، وفلان يطيع، وفلان يستحق الجنة، وفلان يستحق النار، وكل شيء مكتوب عند الله سبحانه تبارك وتعالى في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ عنده سبحانه تبارك وتعالى.