تفسير قوله تعالى: (أفترى على الله كذباً أم به جنة)
﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: ٨] هذا من قولهم الذي ينكر الله عز وجل عليهم، يقولون: هل قد افترى على الله كذباً؟ ومن أين لكم أن تعرفوا أنه افترى على الله كذباً؟ هل حدثكم الله أنه لم يبعث رسولاً، بل أنزل كتابه، وأعجزكم هذا الكتاب، والواجب عليهم: أن ينظروا في هذا الكتاب.
إذاً خاطب عقولهم، والرسول غايته أن ينظروا في صدقه من كذبه، هل هو صادق أو كاذب فيما يقول؟ رسولاً، هرقل عظيم الروم لما جاءه خطاب النبي صلوات الله وسلامه عليه ما الذي صنعه؟ بدأ باستخدام عقله، فأتى بـ أبي سفيان مع جماعة من العرب فجعل أبا سفيان أمامهم وجعل وراءه الناس من العرب وقال: إذا كذب فأخبروني، وما المانع أن يكذب أبو سفيان؟ يقول هو بعدما أسلم ويحدث بهذا الحديث: لولا أن يؤثروا علي كذباً، فيعرفون أني كذبت كذبة لكذبت، وكان من أشد أعداء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يؤلب عليه العرب، ويذهب للنبي ﷺ لقتاله، هذا أبو سفيان من الله عز وجل عليه في النهاية بأن أسلم بعد عداء مع النبي ﷺ دام إحدى وعشرين سنة ثم أسلم في آخر سنة ثمانية من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فيسأله هرقل: هذا الرجل الذي بعث فيكم أو الذي يزعم أنه بعث فيكم هل عهدتم عليه كذباً قط؟ هل كذب من قبل؟ قال: لا، ثم قال: هل كان أحد آبائه ملكاً في يوم من الأيام؟ أبو سفيان يجيب: لا، إذاً كيف هو فيكم؟ يقول: هو من أشرفنا ومن أفضلنا نسباً، فبعدما سأله نحو عشرة أسئلة، تبين له أنه رسول فقال: لو كان يترك الكذب على الناس فهل يكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؟ ففي حياتكم لم تسمعوا عليه كذباً قبل ذلك، أيدعي الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؟! لا يكون هذا من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، أتى الآن لكي يطلب ملك أبيه، وقلت إن هذا الرجل من أشرفكم، وكذلك الأنبياء يبعثون في أشراف قومهم.
في نهاية أسئلته يجمع كبراء قومه في قصره، وأغلق عليهم الباب، وقال لهم: ألا أدلكم على شيء تطلبون به خير الدنيا والآخرة؟ فقالوا: بلى، قال: اتبعوا هذا الرجل، إنه رسول حق.
فنخروا جميعهم نخرة واحدة، وجروا إلى الأبواب ليخرجوا، فدعاهم أن ارجعوا، وقال: إنما أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم، فقاموا وخروا ساجدين لـ هرقل، ولم يدخل في دين الله مع معرفة أن ما جاء به الرسول ﷺ هو الحق من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! وقال ذلك هرقل فدخل في قلب أبي سفيان أن النبي ﷺ سيظهر في يوم من الأيام، ومع ذلك ظلت المعاندة على كفره إلى سنة ثمانٍ من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكل نبي يبعثه الله عز وجل بآية من الآيات، فكان للنبي ﷺ أعظم الآيات وهي القرآن العظيم الذي تحدى الله عز وجل به العرب أساطين الفصاحة والبلاغة والشعر على أن يأتوا بكتاب مثله، فلم يستطيعوا فقال: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣] لم يستطيعوا، وقال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] وما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلما لم يقدروا على ذلك، وكان من المفترض أن يدخلوا في دين الله؛ لأنهم قد غلبوا وعجزوا ولكنهم ظلوا على تكذيبهم واستهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلوا بعد ذلك يوماً من الأيام في دين الله، بعدما دخل غيرهم، وتأخروا هم عن الدخول في دين الله سبحانه.
فالقائل الذي يقول: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٧] ألم يروا إلى أنفسهم كيف خلقهم الله سبحانه تبارك وتعالى؟! فقد كانوا نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم صاروا عظاماً ولحماً، وصاروا أجنة في بطون أمهاتهم، وخلقوا هذا الخلق الآخر، فنزلوا إلى هذه الدنيا على هذه الهيئة.
أليس الذي بدأهم من النطفة الحقيرة القذرة، والتي يستقذرها الإنسان بقادر على أن يعيدهم مرة أخرى؟! بلى، ولكنهم يكذبون على الله، ويكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله عز وجل: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: ٨] أي: أم به مس من الجن، وهم يزعمون ذلك، قال تعالى: ﴿بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ [سبأ: ٨] لهم عذاب عند ربهم سبحانه، تراهم في ضلال بعيد، وهم تائهين متحيرين، لا يعرفون الحق ولا يهتدون إليه مع وضوحه وبيانه.