تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة سبأ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [سبأ: ١٠ - ١٢].
ذكرنا أن هذه السورة مكية يذكر الله سبحانه وتعالى فيها الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون، ويذكر نعمه التي ينعم بها على عباده، وقليل من عباد ربنا الشكور، فمن العباد من يشكر النعم فيستحق المزيد منها، ويستحق الجنة دار الخلود، ومنهم من يكفر بالنعم فيستحق في الدنيا الهوان والذل، وفي الآخرة العذاب الشديد.
فهنا: ذكر الله سبحانه وتعالى داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهما من عباد الله الصالحين، أنعم الله عليهما بالنبوة والعلم والحكمة والفهم، وأنعم عليهما بالملك أيضاً، فأعطاهما ملكاً عظيماً، وذكر الله سبحانه بعد ذلك بقليل قصة سبأ وكيف أنعم عليهم في الدنيا وأعطاهم فإذا بهم يكفرون بنعم الله سبحانه، ويتبعون الشيطان: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ [سبأ: ٢٠] فإبليس يأتي للإنسان على أن يغويه ظناً منه، وقد قال الله سبحانه: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢]، فصدق ظنه عليهم، فأغوى منهم من شاء الله عز وجل له الغواية، وثبت الله عز وجل من شاء له الهداية، فهذا داود النبي وهذا سليمان ابنه، وننظر في القصة التي ذكرها الله عز وجل هنا.
وقد تكرر في كتاب الله سبحانه وتعالى في مواضع ذكر داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وسليمان أيضاً، فذكر الله سبحانه وتعالى أنه آتى داود زبوراً، قال: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ [النساء: ١٦٣]، وقال في سورة الإسراء: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: ٥٥] وذكر داود وسليمان ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا﴾ [الأنبياء: ٧٨ - ٧٩] داود وسليمان ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] فآتى الله عز وجل كلاً من الاثنين الحكم والعلم، آتاه النبوة من فضله سبحانه.
وقال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]، فسخر الله عز وجل لداود الجبال تؤوب معه وتسبح، وكذلك الطير كما سيذكر لنا في هذه السورة.
كذلك قال سبحانه في سورة النمل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ١٥] فذكر أنه اختصهما بعلم لم يعطه لغيرهما في زمانهما.
كذلك قال لنبينا صلوات الله وسلامه عليه في سورة (ص): ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ﴾ [ص: ١٧] ذا القوة ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: ١٧ - ٢٠] فهذا مما ذكره الله عز وجل عن داود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فداود نبي من أنبياء الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أبناء يعقوب، ويعقوب له اثنا عشر سبطاً، ومن أسباط يعقوب يهوذا بن يعقوب ولاوي بن يعقوب، فجعل الله عز وجل في سبط لاوي من أبنائه الأنبياء من بني إسرائيل، وجعل في سبط يهوذا الملوك من بني إسرائيل، فبنو إسرائيل يقودهم اثنان: نبي يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى، ويعلمهم ويربيهم ويؤدبهم، وملك يكون من أبناء يعقوب يسوسهم ويأمرهم، ويجهز جيوشهم ويقاتل معهم، فكان فيهم الأنبياء والملوك، الأنبياء من سبط، والملوك من سبط آخر من أسباط يعقوب.


الصفحة التالية
Icon