تفسير قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله)
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: ٨]، ذكر الله السؤال ولم يذكر الجواب؛ لأن الجواب معروف، وهو أن من زين له سوء عمله، مصيبته عظيمة عند الله سبحانه، قال الله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ [الكهف: ١٠٣]، أي: هل تعرف من أخسر الناس عملاً؟ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٤]، أي: أنهم يظنون أنهم محسنون، وأقسى ما يكون على الإنسان إذا ظن بنفسه أنه يعمل شيئاً جيداً، وهو لا قيمة له، فإذا جاء يوم القيامة كان أشد ما يكون عليه أن ينظر إلى أعماله التي كان يعملها وهي تطير أمامه، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣].
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ [الكهف: ١٠٤]، فقد كان الكفار يطعمون ويسقون الحجيج، ويكرمون من يأتي إلى بيت الله، ولكن اعتقادهم باطل وقلوبهم خربة، فهم يعبدون غير الله سبحانه، وإذا قدموا يوم القيامة وجدوا كل هذا ذهب هباءً منثوراً، ولا يستحقون عليه شيئاً؛ لأنك لكي تستحق الأجر لا بد وأن تأتي بأصل من أصول الإيمان بالله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: ١٠٥]، فلا وزن لهم يوم القيامة عند الله سبحانه ولا قيمة لأعمالهم الصالحة التي عملوها، وهم على الكفر.
إذاً: فمن زين لهم الأعمال الباطلة فعملوها وظنوها حسنة، لا تحزن عليهم.
قال الله سبحانه: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨].
أي: الهدى بيد الله، والضلال بيده سبحانه تبارك وتعالى، يهدي من يشاء، ويخذل من يشاء.
وإذا خذل إنساناً فثق أن هذا عدل من الله سبحانه، وأنه لا يستحق إلا ذلك، ومن هداه الله فقد تفضل عليه سبحانه، فهو يتفضل على عبده بأن يهديه، وأن يعينه على طاعته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨].
فالكل يرجع إلى مشيئة الله وإلى حكمته وإلى عدله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨]، أي: احذر أن تقتل نفسك على هؤلاء كما قال في الآية الأخرى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦]، فهل تقتل نفسك من شدة الحزن على هؤلاء لكونهم لا يؤمنون؟ إنهم لا يستحقون ذلك.
﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨]، وقراءة أبي جعفر: (فلا تُذهِب نفسك عليهم حسرات)، ولا تضيع نفسك حسرة على هؤلاء.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: ٨]، إن الله عليم بصنع هؤلاء وبما يفعلونه، ويجازيهم عليه يوم القيامة سبحانه وتعالى.
فالنبي صلوات الله وسلامه عليه كان أرحم الناس بخلق الله سبحانه، وكان يحب أن يدخل الجميع في دين الله، وكان يدعو إلى الله سبحانه بثقته بربه سبحانه، فإذا أجابوه بالأجوبة السخيفة السفيهة يحزن صلوات الله وسلامه عليه، ويشتد حزنه.
حتى كاد يموت من شدة الحزن فأخبره ربه أن الأمر ليس كذلك؛ فإن الهدى بيد الله، والضلال بيده سبحانه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وما على الرسول إلا البلاغ، وعليك أن تأخذ بالأسباب ودع النتيجة لله سبحانه، فهي ليست إليك.
وكرر الله سبحانه تبارك وتعالى ذلك في كتابه مخاطباً نبيه الكريم صلوات الله وسلامه عليه، كقوله سبحانه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢]، أي: لن نحاسبك على عدم هداية هؤلاء وإنما سيحاسبهم الله عز وجل على أفعالهم، وأنت تحاسب على أنك بلغت رسالة ربك سبحانه تبارك وتعالى.
وقال سبحانه: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٧٦]، أي: لا تحزن على الذين يسارعون في الكفر فهم لن يضروا ربهم، وإنما يضرون أنفسهم، وقال له سبحانه ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦].
وفي كل ذلك يخبر الله سبحانه نبيه ﷺ بما مضمونه: لا تحزن على عدم إيمان الكفار، وادعهم إلى دين الله سبحانه، واغضب لله سبحانه، ولكن لا تصل بك الحسرة إلى أن تقتل نفسك من شدة الحزن على هؤلاء، فهم لا يستحقون ذلك، وفيه التنبيه على أن الإنسان الذي يدعو إلى الله يدعو بقلبه، ويحرص على أن يدخل الناس في دين الله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس).
وإذا فرضنا أن المدعو لم يستجب للذي دعاه، فليس المعنى أن الدعوة ضاعت؛ لأنه لم يستجب، ولكن ادع هذا وادع غيره وهكذا، وثق أن الهدى بيد الله، إن شاء هداه، وإن شاء تركه على ضلاله فأرداه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ [فاطر: ٨].
نسأل الله من فضله ومن رحمته، إنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon