ما يستفاد من قول الله سبحانه: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) في قضية الإيمان بالقدر
إذاً: قوله سبحانه: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: ١٠]، من مقاصده: أن الله عز وجل قضى عنده أن هؤلاء: (لا يُؤْمِنُونَ)، ولا يتغير قضاء الله وقدره، فلابد أن نؤمن بقضاء الله وقدره، فهو علم أن هذا الإنسان يستحق العذاب فجعله من أهل عذابه، وأن هذا الإنسان يستحق الرحمة فجعله من أهل رحمته سبحانه.
وبعض الناس دخلوا في أمر القدر بعقولهم فإذا بهم ينكرون القدر، والبعض الآخر ألزموا أنفسهم به، فسمي هؤلاء الذين ينكرون القدر بالقدرية، وسمي هؤلاء بالجبرية، يقولون: نحن مجبرون، وإذا كنا مجبرين مسيرين فلماذا يعذبنا الله؟ وقال أحد شعرائهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء إن هؤلاء لم يفهموا قضاء الله وقدره على ما أراد الله أن يعلمه عباده.
قلنا: إن القضاء والقدر من أمور الغيب، فلابد أن تؤمن بالقضاء والقدر، وتؤمن بأن الله عز وجل له المشيئة النافذة في كل شيء، وتؤمن أن الله أعطاك مشيئة بها تختار، وأنزل الكتاب، وأرسل الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فتكليفك حين عرفت من القرآن، وعرفت من السنة، وكذلك أعطاك الله العقل الذي تفكر به، وأعطاك الإرادة لتختار وتكتسب.
فعليك أن تقول: إن الله سبحانه جعل لي اختياراً، ولا أشاء شيئاً لم يشأه الله سبحانه، وما أشاؤه قد علمه الله عز وجل قبل ذلك وشاءه، وكل ما يكون في كون الله قد أراده وشاءه سبحانه، ولا شيء في كونه يكون عنوة وقهراً عليه، حاشا له سبحانه وتعالى.
إذاً: شعورك هذا محل اختيارك، ومحل كسبك، ومحل تكليفك، وجزاؤك عند الله سبحانه، فلا تقول: إن الله سبحانه هو الذي قدر علي هذا الذنب؛ لأنك عندما تفعل الذنب تستشعر أنك تختاره وتفعل هذا الشيء، فيحاسبك الله على ما اخترته.
والقدرية ينفون القدر ويقولون: لا مشيئة لله، المشيئة مشيئتنا نحن، ونحن نخلق أفعالنا ونفعل هذه الأشياء، ومن هؤلاء رجل يقال له: غيلان القدري، سمع به عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأرسل إليه وأتى به، وقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر! وعمر بن عبد العزيز هو أحد العلماء، ويقول عنه ابن شهاب الزهري: ما استصغرت نفسي عند أحد من العلماء إلا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
فلما أتي عمر بهذا الإنسان وقال له: بلغني أنك تتكلم في القدر، يعني: تنفي القدر، فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين، ثم سكت قليلاً، لكن صاحب البدعة لا يريد إلا أن يظهر بدعته، فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت قول الله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢ - ٣]، قال: أي: دللناه على الطريق، فالله دلنا فقط، لكن الإنسان يكون إما شاكراً وإما كفوراً، يقول ذلك إشارة منه أن الإنسان هو الذي يفعل الشيء، وأن الله لا دخل له بهذا الشيء.
فلما قال ذلك قال له عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: اقرأ يا غيلان فيها، فقرأ حتى انتهى إلى قول الله عز وجل، ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٩].
وفي هذا إثبات مشيئة للعبد، ثم قال: اقرأ يا غيلان فقرأ وقال: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]، فلما قرأها قال: والله يا أمير المؤمنين ما شعرت أن هذا في كتاب الله قط.
فأهل البدع يطمس الله عز وجل على عقولهم، وعلى أبصارهم، فيرى صاحب البدعة الشيء الذي يسول له عقله وتفكيره وبدعته فقط، ولا يرى غيره، فهو أعمى عن حجة الغير، لا يرى إلا ما يقول، فهو لما وصل لآخر السورة، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]، عرف أنه كاذب فيما يدعيه، فقال: ما علمت بذلك إلا الآن، كأنه ما قرأها قبل ذلك.
فقال له: يا غيلان، اقرأ أول سورة يس، فقرأ حتى بلغ قول الله عز وجل: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: ١٠]، فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قبل اليوم.
ثم قال: اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب، يعني: تائب عن القول بعدم القدر.
فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه وثبته، وإن كان كاذباً فسلط عليه ما لا يرحمه، واجعله آية للمؤمنين.
وغيلان كذب على عمر بن عبد العزيز في قوله إني تائب، فإنه لم يتب، ولكن لما غلبه عمر في الحجة ولم يستطع أن يتكلم أخبر بأنه تائب.
وتمر الأيام ويكون الخليفة هشام بن عبد الملك، وغيلان ما زال على بدعته، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه، قال ابن عون: لقد رأيت غيلان مصلوباً على باب دمشق، فقلت: ما شأنك يا غيلان؟ قال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
فهذا الإنسان ابتدع ونفى قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وقد جاء في حديث النبي ﷺ الذي رواه الطبراني وهو حديث حسنه الشيخ الألباني وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم).
فالذين يكذبون بالقدر جعلهم مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يؤمنون بالنور والظلام، بأن النور خالق وفاعل، والظلام خالق وفاعل، فينسبون كل خير إلى النور، ويقولون: النور هو الذي خلق الخير، وينسبون كل شر إلى الظلمة، ويقولون الظلمة هي التي خلقت هذا الشر.
فكذلك القدرية ينسبون الأفعال إلى أنفسهم يقولون: نحن الذين نكسبها، ونحن الذين نعملها، والله ليس له دخل في شيء، ولا يعلم هذا الشيء، وليس له تقدير في ذلك.
والله عز وجل يقول لعباده: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠]، فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
وكل شيء في هذا الكون خلقه الله عز وجل، خلق المؤمن وهو خير، وخلق الكافر وهو شر، ولكن كل خلق له فيه حكمة، فبحكمته أوجد المؤمن، وأوجد الكافر وأوجد الخير، وأوجد غيره.
فالله على كل شيء قدير، وهنا في هذه الآية يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١]، أي: اتبع هذا القرآن الحكيم، واتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس: ١١]، وهذا الذي ينفعه عمله أنه يخاف الله، والله غيب.
أما الذي يخاف الله حين يرى الله فهذا لا ينفعه إيمانه؛ لأنه انتهى دار التكليف وهي الدنيا، فالإنسان المؤمن الذي خشي الرحمن بالغيب، وعمل صالحاً، واتبع الذكر، بشره ربه سبحانه بالمغفرة والأجر الكريم.
نسأل الله عز وجل عز وجل مغفرته وأجره الكريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.