تفسير قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً)
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩].
في الآخرة أعماهم الله عز وجل في النار، قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢]، أي: سود الوجوه زرق العيون، كأقبح ما يكون الإنسان على هيئة، يحشرون في النار وقد غلت أيديهم إلى أعناقهم، وقد كلحت وجوههم، وتقلصت شفاههم إلى أعينهم وإلى صدورهم من نار الجحيم والعياذ بالله، وجعل الله عز وجل سداً أمامهم وسداً خلفهم، فهم عمي لا يرون شيئاً.
وكذلك صنع بهؤلاء الكفار في الدنيا، لم يروا النبي ﷺ ولم يبصروه، وتكرر ذلك حين خرج مهاجراً إلى المدينة، ومر على الكفار وقد جمعوا له أربعين رجلاً، كل منهم شاب قوي من قبيلة يحمل سيفاً، فأرادوا قتل النبي ﷺ بضربة رجل واحد.
وخرج النبي ﷺ بأمر الله سبحانه وتعالى، وأخذ تراباً من الأرض وألقاه على رءوس الجميع فأعماهم الله فلم يروا النبي ﷺ وهو يمر من أمامهم حتى خرج صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك في يوم حنين، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: ٢٥]، وإذا بالمسلمين يفرون من الكفار، ولم يبق سوى النبي ﷺ ومعه سبعون من آل بيته وأصحابه، وينزل النبي ﷺ للكفار ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، يقول ذلك في موطن يفر منه الأبطال.
ففي الحديث: (ثم يأخذ من الأرض تراباً ويلقيه عليهم ويقول: شاهت الوجوه)، فأعمى الله عز وجل الكفار، ولم يرجع المسلمون إلى النبي ﷺ حتى بدأ هؤلاء السبعون في أسر الكفار، فر تسعة آلاف وتسعمائة وثلاثون ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وممن فر ألفان من مسلمة الفتح، ولم يبق إلا سبعون مع النبي ﷺ وهو يواجه هوازن وغطفان وعددهم عشرة آلاف، يواجههم بسبعين وتراب من الأرض يأخذه ويلقيه على وجوههم، وهو يقول: (شاهت الوجوه) فيعميهم الله سبحانه، ويأسرهم النبي ﷺ ومن معه، ولا يرجع المسلمون حتى تكون الدائرة على هؤلاء الكفار.
فالله عز وجل جعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشاهم فلم يبصروا، فنصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه في مواطن كما سمعنا.
أما يوم القيامة فالله عز وجل يحشرهم عمياً في النار والعياذ بالله، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ [طه: ١٢٥ - ١٢٦].
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ [يس: ٩]، في رواية لهذا الأثر: أن أبا جهل ومعه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كانوا يرصدون النبي ﷺ ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم النبي ﷺ وهو يقرأ هذه السورة ومعه تراب، وقرأ الآية: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩]، فأطرقوا جميعاً حتى مر النبي ﷺ ولم يقدروا له على شيء.
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ [يس: ٩]، هذه قراءة حفص عن عاصم.
وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف، وباقي القراء: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)، والمعنى واحد يقال: هذا سَد، وهذا سُد، كأنه يسد المكان بين الاثنين.
وقوله تعالى: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩]، أي: ما يغشى الإنسان، وهو شيء يجعل غشاوة على بصره فلا يرى، والغشى قريب من ذلك، مأخوذ من العشاوة على العين، والغشاوة بالغين: لا يبصر أو لا يرى، والأعشى هو الذي لا يبصر في وقت دون وقت آخر.