قصة حبيب النجار
قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠].
والقصص القرآني قصص عجيب جداً، فيه التشويق، والاختصار، وبيان الفائدة، فالقرآن يشير بإشارات لطيفة إلى مجمل الأحداث: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ [يس: ٢٠]، يا ترى من هذا الرجل؟ وما حكايته، ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: ٢٠ - ٢١].
هذا الرجل كان يسمى حبيب النجار، هذا الرجل آمن وكان قبل ذلك كافراً، وجاء عن ابن عباس أنه كان ينحت الأصنام قل ذلك، وأنه كان مريضاً مرضاً شديداً، قيل بالجذام وقيل بغير ذلك، وكان يصنع الأصنام ويدعوها من دون الله سبحانه سنين طويلة فما نفع دعاؤه، فمر به الرسل وهم آتون إلى هذه القرية فدعوه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فتعجب من كلامهم، ومن هو الله؟ فدعوه إلى الله سبحانه الذي خلقه، ورزقه، والذي يحيي ويميت، والذي يشفي المرضى، فقال: لو أنا دخلت في دينكم هل سيشفيني الله؟ قالوا: ندعو لك، والله إن شاء يشفيك.
فإذا به يتابعهم فيدعون له، فلما دعوا له شفاه الله، فعرف أن الحق هو ما عليه الرسل، فلما عرف ذلك آمن، وكان أهل القرية أهل ظلم وعدوان، فلذلك لم يشتهر عنه أنه آمن بهؤلاء الرسل، وتوجه الرسل إلى غيره يدعونهم إلى الله سبحانه من ضعفاء الناس، فمنهم من استجاب، ولكن الأغلب لم يستجيبوا لهم، وتوجهوا إلى ملك هذه القرية يدعونه إلى الله سبحانه، فلم يستجب لهم، وقيل: استجاب، فالله أعلم بذلك، لكن الأغلب من الكبراء وأهل هذه القرية أنهم لم يؤمنوا، وأصروا على قتل هؤلاء الرسل عليهم السلام.
فلما أصروا على القتل، واستفاض الخبر في المدينة أنهم سيقتلون جاء هذا الرجل العابد مسرعاً لينقذ هؤلاء، أو يحاول أن يدافع عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
قص الله عز وجل علينا قصته فقال: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ [يس: ٢٠]، جاء يجري من أقصى المدينة خائفاً على الرسل الذين أرسلهم ربنا سبحانه، وكانوا السبب في أن يرد الله عز وجل عليه صحته وعافيته، فقال: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠]، هؤلاء أهل خير وليسوا أهل شر كما تزعمون، وليسوا كاذبين وإنما هم رسل من عند رب العالمين سبحانه.
﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: ٢١]؛ لأنه جرب قبل ذلك، فقد مر عليه الرسل فدعوا له ولم يطلبوا منه أجراً، فهو يعلم أن هؤلاء يدعون إلى الله ولا يطلبون من الناس شيئاً.
ويلاحظ أن هذا الرجل جاء مسرعاً وأطال الكلام معهم كأنه يكسب وقتاً للرسل لكي يفلتوا، أو لعل الناس يتركونهم، أو يأتي من ينقذ هؤلاء الرسل، لذلك جادل كثيراً مع هؤلاء القوم: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠]، حتى الآن ما قال لهم: أنا آمنت، ولكن قال: (يا قومي!) أي: أنا منكم، اتركوهم واسمعوا لهم، فهو يحاول أن ينقذ هؤلاء الرسل بأي شيء يقوله لهؤلاء القوم.
﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس: ٢١]، فأنا خبرتهم من قبل، وسمعت كلامهم، وهم على هدى، ولم يقل: أنا آمنت معهم حتى الآن.
وحين لم يجد فائدة منهم قال: ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: ٢٢]، يتكلم عن نفسه: لماذا أنا لا أدخل في دين هؤلاء؟ لم لا أعبد الذي فطرني وهم يدعونني إليه: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: ٢٢]، سوف نرجع إلى الله سبحانه وتعالى مرة ثانية.
﴿وَمَا لِيَ﴾ [يس: ٢٢]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها هشام بخلفه: ((وَمَا لِيْ)) وقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: ﴿وَإِلَيْهِ تَرْجَعُونَ﴾ [يس: ٢٢]، وكذا في كل كلمة ترجع بمعنى الرجوع إلى الله سبحانه يقرؤها يعقوب: (تَرجع)، ويقرؤها الجمهور: (تُرجع).
قال: ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ [يس: ٢٣]، وهم يعلمون أنه كان يصنع لهم الأصنام قبل ذلك.
وقوله: ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ﴾ [يس: ٢٢]، يعجب من نفسه: كيف يتبين لي الحق ثم لا أعبد الله الذي فطرني؟ أي الذي خلقني تبارك وتعالى، وإليه المصير يوم القيامة.
﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ﴾ [يس: ٢٣].
هل أعبد آلهة من دون الله سبحانه، وماذا تنفع هذه الآلهة؟ لقد صنعنا أصناماً قبل ذلك ولم تفدنا، كنت مجذوماً سنيناً من الدهر ولم تنفع هذه الأصنام، وإنما الذي نفعني الله سبحانه، وحسن عبادته تبارك وتعالى.
((أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً))، والتقاء همزتين هنا فيها قراءات، فيقرؤها البعض منهم بتسهيل الهمزة الثانية، ويقرأها البعض بتحقيق الاثنتين: فيقرأ ورش وابن كثير ورويس: ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ [يس: ٢٣]، وقرأ الأزرق عن ورش: (آتخذ من دونه آلهة) بإبدال الهمزة مداً، وقرأها قالون وأبو عمرو ورواية عن هشام: (آاتخذ) بالمد همزة ممدودة وبعدها تسهيل الهمز الثانية، لصعوبة نطق الهمزتين مع بعض، والبعض يفصل بينهما بألف أو يسهل الهمزة الثانية سواء فصل بألف أو لم يفصل، فكأن هنا قالون يقرأها: ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ [يس: ٢٣]، ويقرؤها هشام: (آأتخذ من دونه آلهة) وله فيها ثلاث قراءات.
(يردن) هذه بالكسر، ويقرؤها أبو جعفر وصلاً ووقفاً بالياء، فإذا وقف يقرؤها: (إن يردنيْ) فإذا وصل يقرؤها: (إن يردنيَ الرحمن) ويقرؤها يعقوب وقفاً بالياء: (إن يردني) فإذا وصل قرأها كغيره: ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ﴾ [يس: ٢٣].
أيضاً قوله: (وَلا يُنقِذُونِ) يقرؤها يعقوب بالياء سواء وصل أو وقف، وورش يقرؤها بالياء وصلاً، ويقرؤها وقفاً كغيره: ((وَلا يُنقِذُونِ)).
﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ﴾ [يس: ٢٣].
هذه الأصنام لا تشفع عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغني شيئاً، ولا تنقذني من عذاب الله سبحانه تبارك وتعالى.
﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ٢٤]، لو أني عبدت هذه الأصنام من دون الله سبحانه: ﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: ٢٤]، والضلال بمعنى: التيه والبعد، ضل الإنسان الطريق بمعنى: تاه، دخل في صحراء وما عرف يرجع.
قراءة الجمهور: ﴿إِنِّي إِذًا﴾ [يس: ٢٤]، ويقرؤها نافع وأبو جعفر وأبو عمرو: (إنيَ إذاً لفي ضلال مبين).
وقوله: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: ٢٥] هذه أيضاً سيقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: (إنيَ آمنت بربكم فاسمعون).
قوله: ﴿إِنِّي آمَنْتُ﴾ [يس: ٢٥]، هو كان مؤمناً قبل ذلك، وكأنه يريد وقتاً يجادل فيه القوم، ولو بدأ بقوله: أنا مؤمن فسوف يقتلونه معهم، ولكن بدا بأنه يحاور ويجادل لعلهم يتركون هؤلاء وينظرون في المعجزات التي أيدهم الله عز وجل بها، ولكن لم ينفع ذلك مع هؤلاء، فلما وصل لذلك: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ [يس: ٢٥ - ٢٦]، وكأن هنا شيئاً محذوفاً في السياق، وكأنه أول ما قال إنه مؤمن قاموا إليه فقتلوه.
وجاء عن ابن مسعود أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت قصبة دبره أي: معائه خرجت منه.
وقيل: بل رموه في بئر وسدوا عليه البئر ودفنوه حياً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإذا به شهيد عند الله سبحانه، فأدخله الله عز وجل الجنة.
ثم قال معبراً عن ذلك، وكأن الدنيا لا تستحق أن تذكر بما فيها من قتل وعذاب مقابل الجنة العظيمة التي عمل لها هذا، وعمل لها الرسل، ويعمل لها المؤمنون، قال الله سبحانه: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ [يس: ٢٦]، قال له ربه أو قالت له الملائكة: ادخل الجنة، فهو شهيد، قال الله سبحانه: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء أرواحهم في أجواف طير خضر تروح في الجنة وتسرح كيف تشاء)، هنا أرواح هؤلاء تدخل الجنة، أما اجتماع الروح في البدن فإنه يوم القيامة حين يوفى الإنسان حسابه يوم القيامة.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾ [يس: ٢٦]، هذه قراءة الجمهور، ويقرؤها هشام والكسائي ورويس أيضاً: (قُيل) لبيان أنه مبني للمجهول.
﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: ٢٦ - ٢٧].
هنا انتهت قصة هذا الرجل الفاضل الذي جعله الله عز وجل قدوة، وكيف أنه بدأ حياته بعبادة غير الله سبحانه، وفي النهاية عبد الله