تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما)
قال تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ [الصافات: ٥].
الرب: هو الخالق سبحانه، والرب: هو المالك الذي ملك المخلوقات ودبر أمرها.
(وَمَا بَيْنَهُمَا) أي: كل شيء بين السماوات والأرض، فهو خالقه ومدبره.
(وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)، فهو رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق سبحانه وتعالى كذلك.
وقد ذكر الله عز وجل المشارق هنا، وذكر أيضاً في كتابه المشرق والمغرب وكرر ذلك فقال لنا في سورة المزمل: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ [المزمل: ٩]، وقال لنا في سورة الرحمن: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٧ - ١٨]، وقال لنا سبحانه: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ [المعارج: ٤٠]، وهنا قال لنا: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) سبحانه تبارك وتعالى.
والحق أن القرآن كلام عظيم، وهو كلام رب العالمين لا يتناقض أبداً، ومن توهم فيه التناقض فإنما هو لقصر فهمه وتفكيره، لكن العلماء ينظرون في هذا القرآن العظيم فيجدونه بليغاً فصيحاً قوياً متيناً، والدليل على ذلك هذه الآيات العجيبة فمرة يقول: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، ومرة يقول: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)، ومرة يقول: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)، وكل هذا صحيح، فالمشرق: هو مكان الشروق، والمغرب: هو مكان الغروب، فهناك مشرق ومغرب.
أما قوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧]، فإنك إذا تتبعت فصول السنة ومشرق الشمس في الشتاء في أقصر الأيام، ثم مشرق الشمس في الصيف في أطول الأيام، فستجد أن مشرقها في أطول يوم في السنة غير المشرق الذي تشرق فيه في أقصر يوم في السنة، فكأن المشرق مشرقان مختلفان ينبني عليهما طول اليوم والليل وقصرهما، فحسن إطلاق لفظ المشرق والمغرب بالمثنى في قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧].
أما إطلاق لفظ الجمع في قوله تعالى: ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ [المعارج: ٤٠]، فباعتبار أن ما بين أقصر الأيام وأطول الأيام تشرق الشمس كل يوم في زاوية معينة تطلع منها، وتغرب من زاوية أخرى ينبني عليها اختلاف الأيام في الطول والقصر في العام كله، فتشرق الشمس على مكان دون الآخر، فالأرض لها مشارق ومغارب، وللمجموعة الشمسية مشارق حولها، على كل كوكب من هذه الكواكب مشرق ومغرب تشرق فيه، فسبحان الله المدبر الحكيم! وقد اكتشف علماء الفلك هذه الحقيقية بعد أن جاءت في القرآن قبل مئات السنين، فتبارك الله رب العالمين، فإن الإنسان إذا تفكر في القرآن عرف الإتقان والإعجاز الذي فيه، وكيف أن الله يذكر المشرق والمغرب تارة بلفظ الإفراد وتارة بلفظ التثنية والجمع وهو يعلم العلة والحكمة في ذلك، فعندما يقول سبحانه في سورة المزمل: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾ [المزمل: ٩]، ناسب إفراد الله سبحانه تبارك وتعالى بالعبودية أن يذكر مشرقاً واحداً ومغرباً واحداً، وهو جنس لمكان الشروق والغروب.
وفي سورة الرحمن يقول تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الرحمن: ٣٣]، يخاطب الاثنين، وهو يقول في كل السورة مخاطباً الإنس والجن: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا﴾ [الرحمن: ١٣]، فناسب أن يذكر المشرق والمغرب بلفظ المثنى فقال: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: ١٧].
وهنا يقول سبحانه: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، فلأنهما جمع قال: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ)، فجمع فناسب ذلك.
وفي سورة المعارج يقول الله سبحانه: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ﴾ [المعارج: ٤٠ - ٤١] أي: أمثال هذه المجموعات من الكفار والبشر الذين يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب ذكر المشارق والمغارب باعتبار سياق الجمع.
والحاصل: أننا نجد إعجاز القرآن في الحقائق العلمية التي لا تتناقض، وهي مع ذلك في سياق عظيم بديع يلائم الآيات السابقة واللاحقة في السورة التي يذكرها الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك نقول: إن الذي يتأمل في هذا القرآن ويتعمق فيه يعرف قدر هذا الكلام العظيم الذي لا يدانيه كلام الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله، فعندما تقرأ هذا القرآن العظيم الفصيح البليغ، وهذا السياق اللغوي الرصين المتين العظيم الجميل، تتعجب من وجوه إعجازه! وهذا من ذلك.