تفسير قوله تعالى: (حم) والكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر: ١ - ٤].
سورة غافر هي أول السور التي تبدأ بـ (حم).
وهي من السور المكية التي يرسخ الله عز وجل فيها أمر العقيدة في قلوب المؤمنين، بذكر الإيمان بالله سبحانه، وتوحيد الله سبحانه، وذكر اليوم الآخر، والجنة والنار، وذكر الابتلاء للمؤمنين وكيف صبروا حتى نصرهم الله سبحانه.
بدئت هذه السورة بهذين الحرفين: (حم)، وكأنه سبحانه يذكر أن حروف اللغة العربية منها هذان الحرفان: حرف الحاء وحرف الميم، والسور التي يبدأ فيها بهذين الحرفين نجد أن أكثر ما يتكرر فيها هما هذان الحرفان، ولا نقول: إن ذلك هو الأكثر، ولكن هو من أكثر ما يتكرر فيها، فإذا بدأ الله عز وجل سورة بنون فإنك تجد حرف النون يتكرر فيها كثيراً، وهو غالب على غيره من الحروف، وقد يكون حرف الألف أكثر منه في السور، ولكن الغالب أن تكون هذه الحروف التي في فواتح السور تتكرر فيها أكثر من غيرها من الحروف.
وأشار بعد قوله: (حم) إلى هذا الكتاب، وكأنه يشير إلى التحدي، فهذا كتاب نزل من السماء فهاتوا كتاباً مثله، وهاتوا شريعة مثل هذه الشريعة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه العظيم، وجيئوا بكلام رصين متين قوي حكيم مثل هذا القرآن العظيم الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه.
(حم) وقد اختلف العلماء في المقصود بهما، والراجح أن الحروف المقطعة في فواتح السور من أسرار القرآن، ولذلك جمع بعض العلماء هذه الحروف التي في فواتح السور ليكونوا منها جملة، فأبعدوا منها الحروف المكررة وأبقوا الحروف التي لم تتكرر فوجدوا هذه الجملة: (نص حكيم قاطع له سر)، وهذه الجملة تؤيد قول من قال: إن هذا من أسرار القرآن، فعلمها عند الله سبحانه وتعالى، والعلماء يذكرون بعض الحكم كقولهم: إن هذه الحروف أكثر ما يتكرر في هذه السورة، فلعل هذا من الحكم، ولا يقال: هي الحكمة التي من أجلها جعل الله عز وجل هذه الحروف في أول السورة.
وقال بعضهم: إنها للتحدي، وهذا أيضاً استنباط، فقالوا: إنه عندما يذكر الحروف المقطعة فإنه يشير بعدها مباشرة أو بعدها بآيات إلى هذا القرآن، نحو: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، ﴿الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [آل عمران: ١ - ٣]، وهنا يقول: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [غافر: ١ - ٢].
إذاً: من ضمن الحكم التي فيها أنها لتحدي الكفار، فهي من جنس الحروف التي تتكلمون بها.
وأيضاً يقال: إن هذه الأحرف تسمى السور بها، فيقال: سورة (حم) فصلت، التي ذكرت فيها السجدة، ويقال: هذه حم غافر، التي ذكر فيها اسم الله عز وجل الغافر، وهذه سورة (الم) السجدة، أي: التي بدأت بـ (الم) وفيها السجدة، وكان يقرؤها النبي ﷺ في فجر كل جمعة، وهكذا.
وقيل: بل هي إشارة إلى أسماء الله سبحانه وتعالى، فالألف إشارة إلى الله، واللام إلى اللطيف، والحاء إلى الحميد والحكيم والحليم، وقد جاء عن العرب إشارات إلى مثل ذلك، كما قال بعضهم: قلت لها قفي فقالت: قاف.
أي: وقفت، فهنا أشارت بحرف إلى ما تقصده، فلعل مثل هذا يحتمل، ولكن لا نقول: إن هذا هو المقصود.
بل نقول: إن هذه الأحرف التي اختارها الله عز وجل في أول بعض السور من أسرار القرآن العظيم، والمراد بيان أن هذا القرآن من جنس هذه الأحرف التي تتكلمون بها.
وأيضاً فالعرب ما كان من عادتهم إن يبدءوا الكلام بحروف القطعة، فعندما يأتي النبي ﷺ ويقرأ عليهم القرآن ويقول: ((الم)، فإن هذا يجعلهم ينتبهون، ويشد أذهانهم ليسمعوا هذا الكلام الذي لم يسمعوه من قبل، فيقوم ويقرأ عليهم بعد ذلك ما في هذا القرآن: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه: ١ - ٣].
إذاً: فالحروف التي في أوائل السور هي من أسرار هذا القرآن العظيم، لكن من الحكم التي في ذكرها بعض العلماء ما ذكرناه.
قال سبحانه: ((حم))، وهذه فيها قراءتان: بفتح الحاء، وهي قراءة الجمهور، ويقرؤها بالإمالة ابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (حم)، فالحاء تمد مداً طبيعياً، والميم تمد مداً طويلاً.


الصفحة التالية
Icon