تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم)
قال سبحانه: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥].
هذا خطاب للنبي ﷺ ولكل من يصلح له الخطاب أن ارجع بذاكرتك إلى الماضي وتذكر فقد أخبرناك في كتابنا عن كذب الكاذبين، وتكذيب المكذبين، الذين كذبوا على الله وافتروا عليه، وعبدوا غيره سبحانه وتعالى، وإن نوقشوا كانت حجتهم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣].
قوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [غافر: ٥]، فدعا بعضهم بعضاً إلى الكفر بالله سبحانه، وتكذيب نبي الله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقالوا لنوح: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: ١١٦]، أي: إما أن تسكت وإما أن نرجمنك، وقد دعاهم نوح عليه السلام إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت دعوة طويلة في عمر مديد، فكان يدعو الأجداد، والآباء، والأبناء، والأحفاد، يذهبون الأول فالأول وهو باق يدعو، حتى كان يوصي بعضهم بعضاً بالكفر بالله سبحانه وتعالى، فيذهب الأولون وقد أوصوا من بعدهم: لا تتبعوا نوحاً -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- وقد أخبر الله عن عملهم ذاك فقال: ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣]، وكان من شأنهم أنهم صنعوا أصناماً ثم عبدوها وقالوا: هؤلاء كان يعبدهم آباؤنا وأجدادنا، فإياكم أن تتركوهم لدعوة هذا -يريدون نوحاً عليه السلام- لا تتركوا من كان يعبد آباءكم: ﴿وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: ٢٣ - ٢٤]، وكان نوح عليه السلام قد دعاهم إلى عبادة الله، وبين لهم أتم البيان؛ بل لم يترك وسيلة ممكنة له تعينه في دعوتهم إلا واستخدمها، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: ٥ - ٩]، فقد دعاهم بالسر ودعاهم بالعلن، دعاهم بالجهر ودعاهم في الخفاء، دعاهم بالتبشير وبالإنذار، بالتخويف وبالتطميع، ومع ذلك لم يسلم الكثير منهم، فكان يدعوهم لجنة عرضها السماوات والأرض، فيزهدوا فيها؛ لأنهم لا يريدون الجنة، ويخوفهم من نار تأكل أجسادهم خالدين فلا يحذرون منها، فاستحقوا أن يستجيب الله لنوح بإهلاكهم، وقد أشار الله عز وجل في الآية إلى ذلك، قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [غافر: ٥].
وقوله تعالى: ﴿وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [غافر: ٥] الأحزاب هم: الذين تحزبوا، والتحزب هو التجمع، وتحزبوا: تجمعوا على أنبيائهم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وقوله: (من بعدهم) أي: من بعد قوم نوح جاءت عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط، وغيرهم كثيرون، قال تعالى: ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨].
فالله سبحانه وتعالى خلق القرون، وأرسل إليهم رسلاً وأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فدعوهم إلى الله؛ فأبوا إلا الكفر.
وقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾ [غافر: ٥] أي: قبل هؤلاء المشركين من قريش كذبت قوم نوح، قوله: ﴿وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [غافر: ٥] أي: كل من تحزب وتجمع على معصية الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولم يتوقف تحزبهم على عدم الإيمان فحسب، بل عزموا أن يؤذوا أنبياء الله، قال تعالى: ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر: ٥]، كأن هذه سنة الله في خلقه، فكل أمة يرسل الله عز وجل إليها نبياً أو رسولاً يجتمعون على تكذيبه، وعدم الإيمان به، إلى إن يأتي أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿لِيَأْخُذُوهُ﴾ [غافر: ٥] أي: ليأسروه، أو يعذبوه، أو يهلكوه، ولما كان الحق أبلج غالباً لا محالة فقد أخذوا يدفعون حججه بالباطل وهذا دأبهم، قال تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ﴾ [غافر: ٥].
وفي الآية إشارة للنبي صلى الله عليه وسلم: أن يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لست أول من جادلك قومك بالباطل، بل كل الأمم السابقة جادلوا أنبياءهم عليهم الصلاة والسلام، وتماروا معهم مجادلين بالباطل دافعين للحق، قال تعالى: ﴿لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر: ٥]، قوله: (ليدحضوا) أي: ليزيلوا، والدحضة: الأرض المزلة التي تزحلق الذي يقف عليها، والمعنى: يردون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بالباطل الذي يقولونه ويدعونه.
ثم قال سبحانه: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥] أي: أخذ كل هؤلاء بكلمة واحدة من الله: كن فيكون، وعبر عنها بقوله: (فأخذتهم) فأجمل، وفصل في موضع آخر، قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٠]، فذكر إهلاكهم في الآية الأولى، فهم لا يستحقون سوى ذلك، فانظر كيف كان عقاب الله لهم، قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥]، أي: انظر ما فعلناه بهؤلاء، فقد أخذنا الجميع، فلا ترى منهم من أحد، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لأحدهم صوتاً، أخذت الجميع ولم أبق أحداً منهم، كم صرخوا ونهقوا ورفعوا أصواتهم مجادلين بالباطل! كم أنكروا على أنبيائهم، واعترضوا عليهم، وأسكتوهم حين دعوهم إلى الله! كم اشمأزوا وظهر الاشمئزاز على وجوههم حين ذكر الله وحده سبحانه وتعالى! وكم استبشروا حين ذكر غير الله سبحانه وتعالى! قال سبحانه: ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: ٥]، وإذا أخذهم الله فلن يتركهم ولن يفلتهم، ولن يعجزوا الله سبحانه.
وقوله: (فكيف كان عقاب) أي: كيف كانت عقوبتي لهؤلاء؟ وفيها قراءتان: الوقف عليها بالسكون، وهي قراءة الجمهور، والوقف عليها بالياء والوصل وهي قراءة يعقوب، فيقرؤها: (فكيف كان عقابي)، والمعنى: كيف كان عقابي لهؤلاء.


الصفحة التالية
Icon